أقلعت بنا الطائرة الجزائرية متأخرة من مطار هواري بومدين بالعاصمة. تشاءمت والطائرة تستوي فوق الغيوم متجهة إلى مدينة اسْبليت اليوغسلافية وقتها (هي مدينة كرواتية اليوم). لكم تقت إلى مشاهدة خليج هذه المدينة! يقال إنه من أجمل خلجان العالم وأنه يفرج عن إحدى أجمل جواهر البحر المتوسط. للأسف كان تشاؤمي في محله، فقد نزلت بنا الطائرة في مطار اسبيلت على الساعة العاشرة ليلا. لم نكن أنا وصديقي طيبي نرى من المدينة سوى أضوائها المتلألئة هنا والمنعكسة هناك على مرآة البحر السوداء، وعلى الفور، قررنا أنا وطيبي ألا ننزل إلى المدينة وأن نواصل رحلتنا في أول طائرة تقلع نحو بلغراد العاصمة. وفعلا ركبنا في منتصف الليل آخر طائرة يوغسلافية تتجه إلى بلغراد في تلك الليلة، نمت نوماً مضطرباً، وحين أيقضني طيبي حوالي الثامنة صباحا وجدت نفسي متعبا كمن قضى ليله يكسر الحطب! كان معرض بلغراد الدولي للكتاب يقام في شهر سبتمبر من كل سنة، وكنا في منتصف هذا الشهر من عام 1981. كان قد مر على وفاة جوزيف بروز تيتو نصف العام وكانت بدايات الأحقاد والخلافات تطفو علنا على سطح السلطة في يوغسلافيا التي وحدها تيتو بالقوة غداة الحرب العالمية الثانية. لم يستطع الصرب والكروات والمونتينغرو والسراييفو (المسلمون) أن يتفقوا على قيادة موحدة للبلاد، فاختار كل واحد منهم قائدا يمثله في السلطة الجديدة، وهكذا، وجدنا أن يوغسلافيا يحكمها أربعة قادة في ذلك الوقت. كان الجو سوداوياً في بلد تيتو، فحتى إنارة الشوارع في ليل بلغراد المدلهم كانت إنارة تقطيرية؛ حي مضاء والآخر في الظلام، وكانت الصحف وقتها تصب جامّ غضبها على منظمة "أوبيك" للبترول، خاصة في جانبها العربي! لقد قال لنا أحد الشبان (يظهر مثقفا!): "إن العرب هم الذين يضرّوننا برفع أسعار البترول!". كان صربيا وكان يظهر كل حقده على العرب مالكي البترول. فيما بعد عرفنا كل الحقد الصربي على مسلمي سراييفو. في اليوم الثالث من إقامتنا بيوغسلافيا، نشرت يومية "بوليتيكا" وهي أول جريدة في يوغسلافيا خبرا غريبا و مرعبا "بروز تيتو ولد غير شرعي، أنجبته أمه العاهرة من أب مجهول!". وقتها أحسست أن "الجرس قد قرع" لتفتت يوغسلافيا! حتى السياسة الخارجية التي جعلها تيتو غير منحازة و داعمة للشعوب المكافحة كفلسطين، راحت تميل إلى اليمين! كانت الجزائر وقت تيتو بلدا صديقا ليوغسلافيا، غير أن الحكم الجديد أمر بالاعتداء على لاعبي فريقنا لكرة القدم حين لعبنا معهم في اسبليت في نصف نهائي ألعاب البحر المتوسط، مثل المصريين في سنة 2009، رشوا الحكم وضربوا لاعبينا (فريق بلومي وعصاد وماجر) وفازوا بالقوة (3 / 2)! انتهى كل شيء! وما هي إلا سنوات قلائل ودخلت يوغسلافيا في حرب أهلية مدمرة! يكتبها: جيلالي خلاص
1) الفريق المشهور لسنوات 80 - 90 الذي تأهل مرتين متتاليتين لكأس العالم وفاز سنة 1990 بكأس أمم إفريقيا.