لم يكن سهلا الولوج إلى مركز بيار وماري كيري لعلاج السرطان، خاصة قسم الأطفال، نظرات أمل ترتسم على وجوهم وحالات تدعو إلى التشبت بالحياة رغم الألم الذي دخل أجسامهم الضعيفة دون استئذان، هم أطفال لم يودعوا براءتهم ولايزالون متمسكين بحبهم للّعب مع أصحابهم وملامسة ”شقاوة” الطفولة، إنه الضجيج.. إنه الضحك الهستيري.. وحب التملك والمضي وراء الأحلام التي قد تشع في يوم من الأيام لتزهر بهم الحياة الوردية، بعيدا عن البحث عن الدواء أو ”المصل” المفقود لاسترجاع ملكات الحياة. في ركن بعيد جلست سيدة في مقتبل العمر تنتظر دورها في قاعة الانتظار التي امتلأت بأهالي المصابين، أبواب موصدة، وأطفال يبحثون من يساعدهم للوصول إلى بر الأمان.. قد يكون دكتورا أو جرعة دواء أشيع أنه مفقود.. إضافة إلى خوف انتابنا من أن يكتشف أمرنا كصحفيين، لأن وجودنا داخل المركز في وقت غير مسموح به بالزيارة أمر صعب جدا، ولكن شغفنا لزيارة أطفال مرضى السرطان والجلوس معهم لنشاركهم لحظة أمل ولحظة تطلع لمستقبل مشرق، كانت هي الساطعة بالنسبة لنا. اقتربنا من سيدة في مقتبل العمر، كانت جالسة أمام ابنها، الذي كان يظهر لأول وهلة أنه مصاب على مستوى العين، بعد أن ضمدت عينه اليسرى. سألناها عن إصابة ابنها فقالت: ”عندو المرض الخبيث”، وسكتت. واصلنا حديثنا معها وسألناها من أين جاءت، فقالت:”جئت من ولاية تيبازة، اصطحبت ابني لمواصلة العلاج فهو مصاب بورم على مستوى الشبكية تساقط الدمع من عينها، وقالت:”ابني عمره 13 سنة كان يشعر بألم شديد على مستوى الرأس وقيء مستمر، إلى أن ظهرت بوادر المرض، وهو بروز العين بشكل كبير”. وبمجرد أن سألنا أم سهيل عن كيفية معايشتها للألم الذي ينتاب ابنها انتفضت قائلة وبنبرة تحدي قائلة:”لا تقولوا ألم ومعاناة بل تحدثوا عن الأمل في الشفاء وعن كيفية معايشة هؤلاء الأطفال للمرض، فهذا في حد ذاته علاج معنوي ينصهر وراءه الطفل ليكون إشعاع أمل رغم المشاكل التي يواجهها لتلقي العلاج”. هي صرخة أرادت أن ترسلها أم سهيل إلى كل المرضى، لأن الحديث عن الأمل في الشفاء أمر سهل خاصة أمام فئة مرهفة مثل الأطفال ..”لا تتكلموا عن اليأس لأنه لا مكان له معنا”، تضيف أم سهيل. رياض ذو ثلاث سنوات لم يرحمه ”الخبيث” يتملكك الحنان والأمل غير المنتهي بمجرد النظر إلى الملاك الصغير ”رياض”، الذي ملأ القاعة باللعب تارة والبكاء تارة أخرى، ولم نفهم إن كان البكاء من الإحساس بالألم أو أنه ”دلع” ليرضي به والديه ويجعلهم يلتفون حوله. ”رياض” ذو 3 سنوات صمت بمجرد أن اقتربت منه سيدة وسلمت له كتيبا صغيرا خاصا بالتلوين.. ربما تكون الألوان المزركشة فيه اشترت سكوته ورضاه. اقتربنا من والدته، ولكن فجأة تدخل أحد الأشخاص كان بجانبه وسألني:”من تكونين؟ فقلت جئت لأطمئن على الطفل الصغير وأسأل أمه عن أحواله. فرد بنبرة غضب اسأليني أنا فأمه لا تعرف شيئا ولا تفهم.. استفزني فقلت له أنا صحفية ومن أنت؟ فرد: أنا خال الطفل، فقلت:”أمه أعلم بإصابته”، ودخل معي في نقاش شديد، إلا أنني أنهيت الحديث معه وقلت له ”الله قادر على شفائه وشفاء كل المرضى”، وعدت إلى والدته فقالت.. جئنا إلى المستشفى لنتأكد من التحاليل بعد أن ظهر فيها شيء غير مفهوم، وربي يستر. وخلال هذه اللحظة تفهمت الأسلوب الذي تحدث معي به خال الطفل.. أن تكون في حيرة من إصابة ابنك والخوف من المجهول أمر ليس بالهين. ”آمال” ولحظة للنظر إلى المستقبل المشرق ليس بعيدا صادفنا ”أمال” ذات ال 16 سنة، تلك الفتاة ذات الشعر الذهبي التي جاءت من منطقة الكاليتوس، للعلاج الكيميائي. تقول والدتها:”تجدني أحمل همّ ابنتي بعد المثول للعلاج الكيميائي والآلام التي تنتابها بمجرد الانتهاء منه، فهي أصيبت بورم خبيث على مستوى العمود الفقري، لم أجد حل لحالتها سوى الدعاء لله أن يخفف عنها معاناة الألم”. وعن كيفية أصابتها بهذا المرض قالت أم أمال: كانت تحس بوجع شديد على مستوى أسفل الظهر منذ قرابة السنة، وحاولت أخذها إلى الحمام علني أخفف عنها شدة الألم، إلا أن هذا لم يكف من المعاناة التي كانت تلازمها، ما جعلني أجوب معظم الأطباء المختصين الذين أصروا على التحاليل والأشعة، واتضح فيما بعد إصابتها بالسرطان على مستوى فقرات العمود الفقري، رضيت بما قسمه الله لي وبدأت رحلة العلاج مع ابنتي التي أتمنى لها الشفاء العاجل”. غادرنا مستشفى مصطفى باشا ومركز بيار وماري كيري، وأملنا أن يلقى الصغار العلاج اللازم وأن يتولى المختصون أمر الحالات المستعصية، خاصة مع نقص الأدوية والعلاج الكيميائي والأشعة الخاصة، ليبقى الرجاء الوحيد لذوي الإحسان بتبرعهم لهؤلاء الصغار، و حتى الجمعيات التي لم تجد سبيلا وسط الأساليب البيروقراطية.