اختفاء المستوطنين الثلاثة وقع على الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية كالزلزال، وبدا كما لو أنه مادة غنية لاستثمار أمني وسياسي يناسب اليمين الإسرائيلي ويضع في حسابه رصيدا قويا. ولقد كان اليمين بقيادة نتنياهو، قبل عملية الاختطاف أو الاختفاء، حائرا في كيفية معالجة المصالحة الفلسطينية، بعد أن فشلت محاولاته الانفعالية في ثني العالم، والإدارة الأميركية بالذات، عن مواصلة التأييد لحكومتها، وإظهار الاستعداد للتعامل معها، إذ بدا موقف نتنياهو معزولا تماما، ليس فقط على الصعيد الدولي، وإنما على الصعيد الإسرائيلي كذلك، حين ظهرت أصوات مهمة من داخل الائتلاف الحكومي، تدعو نتنياهو إلى التعقل وعدم الذهاب بعيدا في محاربة الحكومة الفلسطينية، وتطوير المواقف الانتقامية منها. وفي عمق مأزق نتنياهو، جاءت هذه العملية لتضعه في موقع يتفوق فيه على خصومه الداخليين تحت مقولة... انظروا ما حدث جراء المصالحة، ثم وهذا هو الأهم بالنسبة إليه، خاطب الأميركيين بالمنطق نفسه طالبا مضاعفة شروطهم على عباس، الذي هو أصلا تحت رقابة شديدة، وامتحان سلوك وأداءٍ جوهره ألا تمس ثوابت العلاقة مع أميركا وإسرائيل، التي ركنها الأساسي التنسيق الأمني. ودعونا ندقق في الأداء الأميركي خلال أزمة الاختطاف أو الاختفاء، فقد أظهر الأميركيون عناية خاصة بحماية مجالهم الفعال والمتبقي من العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية، الذي هو التنسيق الأمني الذي يشرفون عليه ويديرون متطلباته في أدق التفاصيل، ولقد حرص الأميركيون على أن يكثر الإسرائيليون من القول إنه ورغم سوء الأوضاع عموما بين الفلسطينيين والإسرائيليين فإن التنسيق الأمني بين الطرفين يمضي بصورة فعالة. وتعزيزا لهذا الاتجاه، بذل الوزير كيري جهودا مضنية من أجل تسييس الجانب الأمني، بحيث لا يظل عاريا عن العملية السياسية، إذ نظم لهذه الغاية الاتصال الهاتفي الذي تم بين نتنياهو وعباس، بعد قطيعة دامت فترة طويلة. ولولا عملية الاختطاف أو الاختفاء، لما اضطر عباس إلى الحديث عن التنسيق الأمني مع إسرائيل في محفل إسلامي، ولما اضطر إلى الاستجابة لمبادرة كيري بالاتصال مع نتنياهو، وذلك في زمن الجفاء بعد انهيار العملية السياسية والذهاب إلى المصالحة، إلا أن ما يحرج عباس وما يفترض أن يحرج كيري هو مبالغات نتنياهو في استثمار ما حدث، واعتصار الرئيس الفلسطيني حتى آخر قطرة. نتنياهو الذي رفع درجة التنكيل بالشعب الفلسطيني إلى أعلى مستوى، وبالغ في عرض شروطه التي تقترب من الاستسلام لسياسته ومطالبه، يسعى فيما يبدو إلى تقويض ليس فقط أجواء المصالحة التي تمت بين فتح وحماس، وهذا حدث موضوعيا حتى الآن، بل يسعى فوق ذلك إلى تقويض مصداقية القيادة الفلسطينية، وإغلاق هوامش الحركة المستقلة نسبيا أمامها تحت عنوان ”إما الإذعان المطلق وإما التنكيل المستمر”. لقد جاءت عملية الاختطاف أو الاختفاء، في وقت حرج للغاية، وبالنسبة لرجل مثل نتنياهو، فقد حشت بندقيته بمزيد من العتاد بعد أن أوشكت على النفاد. أما بالنسبة للفلسطينيين، وبالذات معسكر الاعتدال والتفاوض، فقد فرضت عليهم خسارات إضافية، أولاها مضاعفة التدخل الإسرائيلي العسكري والأمني في مناطقهم ومؤسساتهم، وليس آخرها إعادة اعتقال معظم من أفرج عنهم في صفقات التبادل، وهذا بإجماله يعني فتح باب لمزيد من الخطر يلف الوضع الفلسطيني بشقيه، المقاوم والمفاوض.