قبل نحو خمسين عاما، بالتحديد (يوليو 1964)، صدر في الولاياتالمتحدة قانون الحقوق المدنية الذي ناضل القس الأميركي الأفريقي الجذور مارتن لوثر كينغ في سبيله طويلا، حتى وإن كلفه حياته. كان حلم لوثر أنه ذات يوم، على تلال جورجيا الحمراء، سيتمكن أبناء العبيد السابقين وأبناء ملاك العبيد من الجلوس على مائدة الإخوة... حلم لوثر بأن أطفاله الأربعة سوف يعيشون ذات يوم في أمة لن يحاكموا فيها بحسب لون بشرتهم، بل بحسب مضمون خلقهم... واليوم وبعد نصف قرن على حلم لوثر، يحق لنا أن نتساءل: هل تبخر ذاك الحلم؟ ما جري أخيرا في مدينة فيرغسون الأميركية، من مقتل الشاب مايكل براون على يد ضابط بوليس أبيض، يدعو لشكوك عميقة نحو تجاوز أميركا للعنصرية العرقية بشكل مطلق، بل يؤكد أن هنا خطأ أصيلا راكدا في جذور النموذج الاجتماعي السياسي القائم في الولاياتالمتحدة. تعد فيرغسون دليلا غير ناصع، وإن كان واضحا، لحالة التفرقة والتمييز ما بين البيض والسود من الأميركيين؛ إذ تعاني الفقر الشديد، وقلة فرص العمل، بعد أن غادرها أصحاب الياقات الزرقاء في ثمانينات القرن الماضي بعد الهبوط الصناعي الشهير في البلاد، ومنذ عام 2000 على نحو خاص هبط معدل الأجر في تلك المدينة 30 في المائة. في المشهد الآني للمدينة الأميركية المحتقنة، يطفو على السطح سؤال بالغ الأهمية: ”هل هذا الوضع العنصري قابل للتمدد والاتساع بطول وعرض الولاياتالمتحدة المختلفة، المترامية الأطراف؟”. الشاهد أن التيارات العرقية المتطرفة تزداد حضورا ونفوذا، فبعد أن كانت منظمة ”الكوكلوكس كلان” هي قمة تلك الجماعات الطاردة والمطاردة للأميركيين السود، طفت على السطح منظمات أشد هولا، مثل ”منظمة فرسان الإمبراطورية الجديدة” (نيو إمباير نايتس)، التي أعلنت في الأيام الماضية جائزة مالية ضخمة للضابط الأميركي المتهم بقتل الشاب براون، الذي وصفته المنظمة بأنه واحد من السود الأشرار. الاضطراب العنصري الأميركي الحالي الذي استدعى إرسال منظمة العفو الدولية، وللمرة الأولي في تاريخها، بعثة تقصي حقائق حول حادثة فيرغسون - بالقطع سيزداد طالما غابت العدالة الاجتماعية، ففي تقرير أخير لوزارة العمل الأميركية، تبين أن نسبة البطالة بين السود في شهر يوليو (تموز) الماضي بلغت 11.14 في المائة، بينما لم تتجاوز لدى البيض 5.3 في المائة. أما استطلاع الرأي الذي أجراه مركز ”بيو” في واشنطن، فقد أظهر انقساما في الرأي بين البيض والسود، حيال مصرع براون، إذ بلغت نسبة السود الذين يعتقدون تعرض براون للقتل بدافع عنصري، ضعفي نسبة البيض الذين يشاطرونهم الرأي. مشهد التفرقة العنصرية اليوم ينمو، لجهة خطيرة أخرى يمكن أن نطلق عليها ”العدالة العنصرية في المحاكم الأميركية”؛ ففي شهر فبراير (شباط) الماضي، برأت هيئة محلفين في ولاية فلوريدا رجلا أبيض اتهم بقتل مراهق أسود البشرة أعزل رميا بالرصاص. وقد كان من الطبيعي أن تندلع الاحتجاجات، عقب صدور حكم البراءة، في عدة مدن أميركية، الأمر الذي اضطر معه الرئيس باراك أوباما لإصدار بيان يدعو فيه المجتمع إلى التزام الهدوء. على أن ذكر اسم الرئيس أوباما يقودنا لعلامة استفهام قائمة بذاتها، حول إخفاقات الرئيس الأميركي ذي الأصول الأفريقية في تحقيق حلمه الأكبر؛ فالرجل الذي تجرأ على الأمل، وضع كذلك نصب عينيه تحقيق الشعار الأخلاقي الأمثل ”الرجال خلقوا متساوين”.. هل فشل أوباما بالفعل؟ يبدو أن لسان حال الأميركيين الأفارقة اليوم هو أن لدينا أول رئيس من أصول أفريقية، لكن معظم السود مع ذلك يعانون حاليا سوء الأحوال الاقتصادية، أكثر مما كانوا عليه قبل 20 سنة. إنهم مهمشون في غالبية مجالات الحياة؛ نسبة البطالة بينهم زادت خلال عقود إلى ضعف نسبتها بين البيض، كما أن مدخولهم المالي أقل بنسبة الثلث من متوسط دخل الفرد. والحقيقة المرة بالنسبة للأميركيين السود، هي أن أوباما وإن انتمى إليهم عبر لون البشرة، إلا أن الرجل بعيد عنهم كل البعد، فهو يحلّق في مدارات الرأسماليين الإمبرياليين، من جماعات المجمع الصناعي العسكري والمالي، التي تستخدمه للترويج لكذبة تمتع المجتمع الأميركي بالعدالة. قبل حادثة براون وفي مايو (أيار) الماضي، أطلق مالك نادي ”لوس أنجليس كليبرز”، أحد أشهر فرق دوري السلة الأميركيين، دونالد شيرلينغ، تصريحات عنصرية ضد لاعبي الفريق من أصل أفريقي، مما دعا المحلل السياسي الأميركي أوجين روبنسون لأن يكتب مقالا بصحيفة ال”واشنطن بوست” بعنوان ”العنصرية بيننا”، قال فيه: ”يجب الاعتراف بأن صاحب نادي كليبرز ليس الشخص العنصري الأخير في أميركا، بل إنهم عبارة عن شركة”. هل عادت العنصرية لتضرب جنبات أميركا من جديد؟ واقع الحال أنها لم تذهب أبدا لتعود، لكن ”أميركا تتحول إلى أمة من الجبناء عندما تناقش العنصرية”، والتعبير هنا لوزير العدل الأميركي الحالي (الأول من أصل أفريقي) إريك هولدر. استغرق تفكك الديمقراطية في أثينا القديمة نحو 250 سنة - وهي عمر أميركا كله تقريبا - عندما وقعت المدينة في قبضة المحاباة، والتمييز، والعنصرية، والفساد وسوء الإدارة، مما أدى إلى انطفاء أنوارها. اليوم، تنطفئ أنوار أميركا ”المدينة فوق جبل”، ربما لتتحقق مقولة أوسكار وايلد الشهيرة ”أميركا هي الدولة الوحيدة التي مضت من مرحلة البربرية إلى مرحلة التحلل والانحطاط، دونما حضارة بينهما”.