هناك سلعة واحدة تستحوذ على اهتمام العالم وهي النفط. العالم مأسور بحراكها ويتابع قفزاتها الإنتاجية وتقلباتها السعرية وتطورات الحراك السياسي المصاحب لها من خلافات وصراعات وحروب. وهذا الأثر يكون عظيما جدا في الدول المنتجة للبترول تحديدا؛ نظرا لاعتماد اقتصادها بشكل أساسي على مداخيلها من بيع هذه السلعة. اليوم يلحق البترول في أسعاره المتدهورة بشكل سريع ومتلاحق غيره من السلع التي يتم التداول عليها في شتى البورصات المالية حول العالم. ولكن الهبوط السريع جدا بات من الطبيعي أن يتسبب في قلق ”مهول” لدى العامة والخاصة في الشأن الاقتصادي، ومع هذا القلق اجتاحت الساحات الإعلامية بمختلف أشكالها محاولات التفسير والتعليل والتبرير سواء أكان الأمر بدراية وجدارة أم عن علم وبيانات ومعلومات دقيقة وموثقة قابلة للتحقيق. وطبعا اختلفت التحليلات التي تقدم التفاسير لما حدث من هبوط بين التفكير في البترول على أنه سلاح سياسي وأداة فعالة تستخدمه السعودية ضد روسيا وإيران لإضعافهما وبالتالي تحجيم تأثيرهما، وخصوصا أنهما تعتمدان بشكل هائل على مدخولات مبيعات النفط، وهناك النظرية التي ترجح أن الدول المنتجة للبترول تحاول إغراق السوق بكم مهول من النفط، بحيث تجعل العرض متاحا ومغريا ورخيصا يجعل من منتجي النفط الصخري، وخصوصا الذي يخرج من الولاياتالمتحدة، ”أغلى” بكثير وغير مجد اقتصاديا لمن ينتجه ويسوقه عالميا. واقع الأمر يتجه إلى القول بأن حقبة البترول المرتفع سعره قد باتت من الماضي لأن الكميات المعروضة في السوق ”كبيرة جدا” سواء أكان من النفط التقليدي أو من النفط الصخري أو النفط الترابي؛ فهناك اكتشافات جديدة تم الإعلان عنها في مناطق مختلفة من العالم، وهناك ”عودة” متوقعة للنفط العراقي والإيراني والليبي بكميات معتبرة، كذلك الإعلان عن تطور هائل في تقنية استخراج النفط من الصخور مثل الأرجنتين والصين (صاحبتي أكبر احتياطي من النفط الصخري في العالم) القادرتين على الإنتاج والتصدير، وكذلك دول أخرى مفاجأة مثل المغرب الذي لديه هو أيضا كميات محترمة من النفط الصخري، بالإضافة إلى الأردن أيضا، مع عدم إغفال أوروبا التي تسعى بريطانيا تحديدا إلى الضغط بقوة على الاتحاد الأوروبي لكسر الشروط الصعبة والتعجيزية الموضوعة لحماية البيئة وتحديدا على المياه، مما سيكون بالإمكان بإبداء الرأي المقنع والحجة القوية تغيير الموقف الرسمي في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي من الممكن إضافة أوروبا إلى خانة المنتجين المحتملين للنفط الصخري. هذا كله يحدث وسط سياسات تقنين للطاقة غير مسبوقة مصحوبة بتنظيمات رادعة واستثمارات هائلة ومجدية وناجعة ومهمة في مجالات الطاقة البديلة بدأت تؤتي ثمارها في مجال السيارات وإضاءة المنازل والمدن وغيرها. الهبوط الحاد في أسعار البترول يشكل خطرا على ميزانيات الكثير من الدول مثل فنزويلاوروسيا وليبيا ونيجيريا وإيران والعراق والسعودية التي جميعها حسبت مداخيلها على معدل معين في سعر برميل البترول. هناك مخاوف كبيرة من انعكاس هذا التدهور الكبير في أسعار البترول على بعض الدول الهشة التي تعتمد كليا على النفط وليس لديها الاحتياطي النقدي الكافي لحمايتها من الصدمات الهائلة هذه، وستتحول هذه المشكلة من أزمة اقتصادية مالية بحتة إلى أزمة إنسانية شديدة لدول مثل العراقوفنزويلا ونيجيريا مثلا، والتي يبدو أن فيها غيابا لدور وزارات الاقتصاد المنوط بها توعية المواطن بأبعاد أحداث النفط هبوطا وصعودا بدلا من الإنكار المستمر للتغيرات والتحولات والتبدلات. اجتماع منظمة أوبك الأخير في فيينا أظهر أن هناك سياسات ووجهات نظر ”مختلفة”، ولكن السوق تظل أقوى، والسعر مستمر في الهبوط وجر معه أسواق المال والبورصات بأكملها في الخليج، التي يبدو أنها مضطربة وقلقة بسبب عدم إدراكها بوضوح لمدى القاع في مستويات هبوط البترول، خصوصا في ظل تقارير جادة من منظمات مالية محترمة، تؤكد أن سعر البرميل سيكون حول 40 دولارا، وهذا بحد ذاته إشارة للتغيير الكامل في مكانة ووضع السلعة وعوائدها في السوق.