أيهما يكسب في نهاية الجولة، الفنان أم السياسي؟ إنها معركة أزلية، ومن الممكن أن تجد تنويعات كثيرة على نفس ”التيمة” في الحياة الفنية والثقافية، وفي نهاية المطاف تعلو سماء دولة الإبداع، وتكتب هي الكلمة الأخيرة. من الممكن أن تجد ما يشفي غليلك وأنت تتابع كثيرا من الأحداث التاريخية، ولكني أتناول معكم آخر واقعة شاهدتها قبل أيام في مهرجان برلين عندما صفق الحاضرون لعدة دقائق حتى الآن ثلاث مرات عند عرض فيلم ”تاكسي” للمخرج الإيراني الكبير جعفر بناهي، حيث يشارك في المسابقة الرسمية، وكان المخرج بالمناسبة قد حصل عام 2006 من برلين على جائزة الإخراج ”الدب الفضي” عن فيلمه الرائع ”أوفسايد”. كان الجميع يترقب الشريط السينمائي، والكل يعلم أن بناهي مقيد الحرية، وغير مسموح له بالسفر خارج حدود البلاد. النظام الإيراني منذ 2009 مع تولي نجاد الولاية الثانية كان قد أدانه جنائيا لوقوفه مع من ينادون بالحرية ويؤازرون تيار الإصلاح. اعتبروه مهددا للأمن القومي للبلاد. وما أسخفها من تهمة، وما أبشعه من اتهام. الخلاف في الرأي أصبح هو الطريق السريع للتشكيك في الولاء الوطني، وهكذا صدر بحقه عقابان، الأول السجن 6 سنوات، والثاني عدم ممارسة المهنة ل20 عاما، وهو كما تعلمون عذاب قاسٍ لا يقل ضراوة عن السجن. هل نحن في تلقي العمل الفني ننحاز للمبدع فكريا، ونتعاطف معه إنسانيا، ولذا نؤيده فنيا؟ هل التصفيق كان حصادا مستحقا حتى قبل أن نرى الفيلم، أم أنه حصده لأنه نتاج ما زرعه على الشاشة؟ لسقراط كلمة موحية وهي ”تكلم حتى أراك”، أي أننا نفهم الناس ونراهم بحق عندما يفكرون بصوت مسموع، وأظن أن بناهي تكلم فأبدع على الشريط السينمائي. إنه الفن الذي ينبض على الشاشة. أتخيل أن أهم رسالة قدمها الفيلم ليست حالة الزخم الفكري الذي نضح به الشريط، ولا التأييد المسبق لبناهي لموقفه السياسي والفكري، ولكن الحالة الإبداعية التي حملها الشريط، وبها كثير من الدلالات، منها قدرة المخرج على الحفاظ على بكارة وعفوية من يستقلون التاكسي حتى بعد أن اكتشف أغلبهم أنه جعفر بناهي. وبالمناسبة، كانوا يحملون له مشاعر إيجابية، وليس معنى ذلك أنهم بالضرورة يؤيدون أفكاره، ولكن المؤكد أنه قد وصل إليهم إبداعيا فصاروا متعاطفين معه إنسانيا. نحن نرى طهران بعيون بناهي، ولهذا تأتي اللقطة الأولى وهي تشير إلى ذلك عندما تستمر لمدة دقيقة لأن الإشارة حمراء، ونتابع رؤية الشوارع والسيارات والبشر مع إطلالة بناهي. نرصد زبائنه الذين يستقلون التاكسي مع كاميرا ثبتها المخرج على الزجاج الخارجي للسيارة لنرى أحلاما وأفكارا، وكوابيس الناس، ومن مختلف الأعمار والفئات. من الممكن أن تعتبر الفيلم محاكاة تسجيلية لما يعرف ب”أفلام الطريق”، وهو واحد من القوالب الشائعة التي تمنح المتلقي متعة التنقل من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى. المخرج حقق ما هو أبعد في رؤيته التسجيلية، إذ إن الأحداث تنتقل بانسياب ونعومة، وهو لا يتطرق مباشرة إلى السياسة بقدر ما يمنحنا تشريحا اجتماعيا، وكأننا بصدد دراسة مرئية وممتعة لعينة عشوائية. الوجه الآخر للفيلم أنه أصبح وثيقة مرئية على ما يتمتع به بناهي في الضمير الجمعي الإيراني من حب وتقدير، لتصل الرسالة إلى شعوب الدنيا كلها من خلال ”تاكسي”. صفق الحاضرون للفيلم وللمخرج ثلاث مرات، وأنتظر أن أستمع للتصفيق رابع مرة مساء السبت القادم عند إعلان فوزه ب”الدب” الذي لن يتسلمه بالطبع، ولكن ستصل الرسالة إلى العالم كله: انتصر الفن على القمع!