ماذا لو قدر لأديب فرنسا الكبير الراحل أندريه مالرو العودة إلى الحياة ليسمع ويرى بنفسه الجواب عن السؤال الذي طرحه في ستينات القرن المنصرم، عندما تساءل: هل القرن الحادي والعشرون سيصبح قرنا دينيا أم لا؟ المؤكد أنه سيدرك أن هذا القرن البائس بات قرنا لصراع الأصوليات الدينية، وصحوة الشوفينيات الطائفية، وتناحر المذاهب وتخاصم الأعراق. قبل نحو 2500 عام تحدث سيد هارتا غوتاما بوذا عن المحبة والتسامح والتعامل بالحسنى والتصدق على الفقراء وترك الغنى.. وفي مقدمة وصايا ”المتنور بوذا” أن ”لا تسرق ولا تغتصب”... هل يحافظ نفر كبير من الأصوليين البوذيين اليوم على إرث بوذا؟ على العكس من ذلك تماما يمضي أولئك وراء خطاب الكراهية الدينية، وقلة حول العالم تلتفت إلى هذه الإشكالية الحديثة، مشيرين فقط إلى التطرف الديني أو إلى اليمين المسيحي المتطرف، عطفا على التطرف اليهودي المعروف. يتبدى الإرهاب البوذي في أسوأ صوره في التعاطي مع الأقليات الدينية في ميانمار، بورما سابقا، الأمر الذي دفع مجلة ”التايم” الأميركية العريقة لأن تخصص عددا لما سمته ”الإرهاب البوذي” المتمثل في الراهب أشين ويراثو مؤسس ما يعرف بحركة 969 والذي أطلقت عليه ”بن لادن بورما”. تاريخيا كانت الغالبية المسلمة في ميانمار تقطن إقليم أراكان وقد وصل الإسلام إلى هناك في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن السابع الميلادي، من خلال التجار العرب. رحلة آلام مسلمي الروهينغيا في واقع الأمر غير حديثة العهد بل تعود إلى العام 1784 عندما احتلت منطقة أراكان من قبل الملك البوذي بوداباي الذي قام بضم الإقليم إلى ميانمار خوفا من انتشار الإسلام في المنطقة، واستمر البوذيون في اضطهاد المسلمين ونهب خيراتهم، وتشجيع البوذيين من جماعة ”الماغ” ذوي الأصول الهندية على ذلك. هل يكرر التاريخ مآسيه؟ ”ليس الآن وقت الهدوء.. إنه الوقت المناسب للنهوض، وجعل الدم يغلي في العروق.. إن مسلمي الروهينغيا يتكاثرون بسرعة كبيرة، ويسرقون نساءنا ويغتصبونهن”... هكذا يتحدث الراهب البوذي وايراثو... الذي سجن عام 2003 بسبب عنصريته تجاه المسلمين، وعادة ما تمتلئ خطبه وعظاته بالتحريض على قتلهم ونبذهم وإقصائهم، ما يتسبب بالفعل في هجرة الآلاف منهم على غير هدى وهلاكهم في البحر جوعا وغرقا، أو الوقوع في براثن تجار البشر. يذهب وايراثو في أصوليته المتطرفة التي لا تقبل الغير إلى أن: ”المسلمين يرغبون في احتلال بلادنا، ولكن أنا لن أسمح لهم بذلك، علينا أن نحافظ على ميانمار بوذية”. هل تتوقف دعوات وايراثو العنصرية عند حدود بورما فقط؟ وهل يكتفي بصب جامات غضبه العنصرية على المسلمين فقط؟ المعروف أن ميانمار دولة تمتزج فيها الجماعات العرقية التي تربو على المائة وثلاثين طائفة تنتمي لعقائد دينية مختلفة، وعليه فالوضع في شمال البلاد متفاقم بدوره، حيث يطارد المسيحيون من عرق ”الكاشين” من قِبل أتباع الراهب المتطرف. البوذية المغالية في عقيدتها انتقلت بدورها إلى عدد من الدول الآسيوية المجاورة، وكأن الأمر شبيه لما يجري في الشرق الأوسط الحزين، وفي مقدمة تلك الدول سريلانكا، حيث تعرضت هناك ممتلكات بعض المسلمين والمسيحيين لاعتداءات وحرق، وقتل البعض الآخر على يد حركة ”بودبالاسينا” البوذية المتعصبة، والوضع أسوأ ولا شك في تايلند، حيث يشارك رهبان بوذيون متطرفون في حملات القمع ضد الأقليات المسلمة، إضافة إلى تدريب ميليشيات مدنية للغرض ذاته. هل يعني ما تقدم أن الإرهاب والتطرف باتا مسيطرين على البوذية برمتها والرهبان البوذيين بأكملهم؟ بالقطع لا، فهناك الكثير من الرهبان البوذيين الذين يرفضون العنف ويدعون للسلام والمصالحة في البلاد، غير أن العملة الرديئة عادة ما تطرد العملة الجيدة، والأخبار السيئة دائما هي الأخبار الأسرع انتشارا، ومثل أتباع أي دين، فإن البوذيين ورهبانهم ليسوا في مأمن من عالم السياسة التي عادة ما تسخر الأديان كمطية لها، ولهذا دائما وأبدا ما تغرق في لجج الشوفينية الطائفية وأمواجها الغادرة. يتبقى سؤال مؤلم وقاس على النفس: ماذا قدم العالم العربي تحديدا لنجدة هؤلاء وأولئك؟ مع أسف شديد يبدو أن فيروس الطائفية قد فتك بالجسد العربي، فبات المسلمون يقتلون على الهوية في بعض البلاد، والمسيحيون يذبحون على شواطئ البحر في بلاد أخرى، وفوضى غير خلاقة بل خناقة قد زعزعت أركان الدولة العربية القومية الحديثة، وشرق أوسط ضاعت بوصلته، وعليه لا يتوجب على مسلمي الروهينغيا انتظار المدد عربيا، على الأقل في الوقت الحالي، وإلى حين صحوة جديدة تعم المنطقة بداية، قوامها التسامح الديني، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الأخوي لجميع المواطنين. متى نصيح مع الكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا: ”استيقظي يا أمة العرب”؟