كانت الصين في قلب الحدث العالمي هذا الأسبوع، وانتقلت عدوى انهيار الأسهم في شنغهاي وشنزن إلى كل أصقاع المعمورة، وعلى رأسها مؤشر الداو جونز الذي يعتبر القائد لبقية المؤشرات العالمية، إذ فقد ما يزيد على 1400 نقطة في ثلاثة أيام، وهو أمر لم يشهد المؤشر مثله حتى في زمن الكساد الكبير. وعلى رغم أن اقتصاد بكين كان ينظر إليه بإعجاب بصفته المنقذ للاقتصاد العالمي بعد أزمة 2008، إلا أن الاقتصاد نفسه هذا الأسبوع كان أكبر مهدد للاقتصاد العالمي، الذي تجاوبت كل مؤشراته مع الصداع الذي أصاب رأس بكين. ولأن فهم الأحداث المتسارعة من انخفاض البورصات بقيادة البورصة الصينية، وقيام بنك الشعب الصيني بخفض سعر الفائدة للمرة الخامسة خلال أقل من عام (الثانية خلال أقل من شهرين)، وخفض معدل الاحتياط الإلزامي للمصارف يوم الثلثاء، ثم ضخه ما يزيد على 20 بليون دولار يوم الأربعاء تحتاج لبعض الوقت لقراءة تأثيراتها، إلا أن المتبع لما بين السطور تظهر له بعض النقاط المهمة الآتية: أولاً: أن ثقة المستثمرين بالصين ليست مثل ثقتهم بأميركا، ويوان بكين ليس دولار واشنطن، ولذا فإنه مهما ضخت بكين من اليوان الرخيص فلن تحظى بثقة المستثمرين ولن يحظى يوانها بما يحظى به الدولار من ثقة. وهذا ربما يفسر ضعف استجابة الأسواق لما يقوم به البنك المركزي الصيني من ضخ هائل للنقد، بما فيها سوق الصين نفسها. ثانياً: أن هناك تناقضاً بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي في بكين، ففي حين أن الاقتصاد الحقيقي بالكاد يصل نموه إلى 7 في المئة وهي النسبة الأقل خلال ربع قرن، فقد تضاعف أسعار الأسهم بنسب فاقت 150 في المئة خلال عام (من يونيو 2014 إلى يونيو 2015)، وللمثال بلغ متوسط معدل ”السعر للأرباح” Price to earning، في بورصة شنزن 70 إلى واحد، في حين أنها كانت 16 إلى 1 لمتوسط الشركات التي تكون مؤشر الداو جونز. ثالثاً: أن معظم الداخلين الجدد للبورصة في الصين هم الأشخاص العاديون من الآباء والأمهات والعمال والموظفين، وهؤلاء ليست لهم خبرة مسبقة في التداول في الأسواق المالية، يضاف إلى ذلك أن كثيراً منهم استخدم الاقتراض لرفع نصيبه وشرائه من الأسهم (أثر الرافعة المالية)، وبالتالي فإن الذعر الصغير تحول إلى انهيار كبير خلال الشهرين الماضيين، نتيجة تدافع هؤلاء المستثمرين الجدد للبيع حتى لا تسيل المصارف محافظهم، ”وهو ما حصل للكثير منهم”. رابعاً: أن حكومة الصين ليست حكومة ديموقراطية منتخبة من الشعب، وقد تواجه مشكلات سياسية واجتماعية بسبب انهيار البورصة وانخفاض معدلات النمو، الذي ينتج عنه خسارة الناس لأموالهم وأعمالهم، وهذا يبرر سرعة التجاوب الكبيرة لاحتواء الأزمة، وضخ البلايين في السوق لتستعيد عنفوانها، على رغم عدم صحية التدخل لما ذكرناه في ثانياً، كما أن هذا السلوك أفقد الناس ”وخصوصاً المستثمرين الأجانب” الثقة بحكومة بكين، وقدرتها على معالجة مشكلات الاقتصاد والبورصة باتزان وتعقل. خامساً: أن هناك بعض التشكك أصلاً في معدل النمو الذي أعلنته الحكومة خلال الربعين الماضيين (7 في المئة)، ويرى بعض المراقبين أن الرقم الحقيقي لا يتجاوز 5 في المئة، وربما أقل (يستدل بعضهم بتراجع مؤشر نشاط الصناعة التحويلية إلى أدنى مستوى له في 77 شهراً). وهذا النمو على رغم أنه ما زال جيداً مقارنة بمعدلات نمو العالم الغربي، إلا إن مقدار الانخفاض في النمو من 10 إلى 5 في المئة، يعتبر كبيراً وغاية في السوء للمتابع لاقتصاد الصين. وبالتأكيد فإن الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، ومثلما كانت المخفف لصدمة 2008 فإن عطاس بكين اليوم تنتقل عدواه إلى بقية العالم في لمحة البصر، وعلى رغم ضغوط وغضب أميركا، إلا أن ما فعلته بكين من خفض عملتها ودعم أسواقها هو حقها الطبيعي. حتاماً، وهو الأهم، إن المتتبع لمجريات الاقتصاد العالمي لا بد أن يرى الصورة العامة الكبيرة لهذا الاقتصاد، التي تقول إن الضخ المهول من النقد الرخيص للأسواق سواء بالدولار أو الين أو اليورو، أو حتى اليوان حالياً ما زال يذهب لنفخ البورصات ومعدلات الأسعار من دون أن يسهم في تعزيز نمو الاقتصاد الحقيقي. وهذا ما يعيد للأذهان وإن بشكل آخر ما حصل في التسعينات من نشوء ظاهرة الركود التضخمي Stagflation (مصطلح مركب من stagnation + Inflation) الذي سبب ركود الاقتصاد مع رفع لأسعار السلع والخدمات، والفارق أن تضخم اليوم يختلف عن الركود التضخمي كون التضخم هذه المرة يحدث في سوق الأسهم فقط نتيجة الضخ المالي، فيما يستمر ويتزايد ركود الاقتصاد الحقيقي، وهو أمر جديد لم يكتشف له الاقتصاديون - بحسب علمي - اسماً إلى اليوم، وأظنه سيكون الشغل الشاغل للاقتصاديين خلال الأيام القريبة المقبلة.