اختارت مجلة ”تايم” الأميركية آخر هذه السنة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ”شخصية العام 2015” لما أظهرته من مرونة وقدرة على القيادة في أزمة اللاجئين السوريين، وضبط الاضطرابات في الاتحاد الأوروبي في شأن العملة الموحدة. ولقد اشتهرت مجلة ”تايم” بتنوع خياراتها السنوية، بحيث أصبحت مرجعاً يتطلع إليه المتفوقون في عالم الأدب والفنون والعلوم والرياضة. وتقدمت ميركل في القائمة كل زعماء العالم، علماً أنها أول امرأة تفوز بهذا اللقب خلال 29 سنة. وأعلنت مديرة تحرير المجلة نانسي غيبس أن المعايير التي استندت إليها في عملية الاختيار كانت من النوع الذي يوحي بالثقة والاحترام، خصوصاً أن الأزمات الصعبة التي مرَّ بها الاتحاد الأوروبي أبرزت ميركل (61 سنة) كلاعب أساسي في إيجاد الحلول للقضايا المستعصية. وتطرقت المجلة الى أزمة اللاجئين السوريين، وإلى أهمية الانفتاح الذي أظهرته ميركل حيال الذين حملوا صورها، وكتبوا اسمها على قمصانهم مع عبارة ”الأم انغيلا ميركل”. وكانت هذه العبارة مجرد تذكير بأن الدول الأوروبية ال 26 لم تعد تمثل وحدة ”شينغن” التي تسمح بحرية التنقل عبر الحدود بين الدول الأعضاء. والمعروف أن هذه الاتفاقية طُبِّقَت للمرة الأولى في العام 1995. وهي تسمح لمواطني هذه الدول بالتنقل الحر عبر الحدود البرية والجوية والبحرية من دون التقيّد بتأشيرات السفر أو التفتيش الجمركي. وامتنعت عن توقيع هذه الاتفاقية كل من بريطانيا وإرلندا وبلغاريا ورومانيا وكرواتيا وقبرص. نشرت الصحف الألمانية الشهر الماضي خبراً مفاده بأن عدد اللاجئين الذين استقبلتهم أوروبا تجاوز المليون نسمة. وقد قطعوا مسافات طويلة في البحر والبر على أمل العثور على مستقبل أفضل. وذكرت أن الشعب الألماني لم يكن كله راضياً عن موقف الحكومة المتساهل تجاه اللاجئين، بدليل أن معارضة وجودهم تحولت الى موجة عنف شملت كل البلاد. لذلك هرب بعضهم إلى خارج ألمانيا بعدما تعرضت خيامهم للمهاجمة والحرق. وقد تعرض من ساعدوهم للتهديد، بحيث اعترفت السلطات بأنها عاجزة عن مواجهة هذه الظاهرة المقلقة. الباحثة الاجتماعية سوزانا دير، الاختصاصية بإدارة العمل مع اللاجئين في برلين، كتبت سلسلة مقالات تعترف فيها باستيقاظ الروح العنصرية المختبئة تحت السطح. وفي الوقت ذاته، قالت إن طالبي اللجوء لا يشعرون بالامتنان تجاه حكومة ميركل، الأمر الذي يزيد المشكلة تعقيداً. على اثر انتشار موجة المعارضة، اجتمعت المستشارة الألمانية مع رئيس وزراء تركيا أحمد داود أوغلو، بهدف تنسيق المواقف في شأن نقل اللاجئين السوريين مباشرة من تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي. وأخبرته في حينه أن قادة الدول الأوروبية قرروا تقديم ثلاثة بلايين يورو إلى أنقرة، شرط التعهد بضمان مراقبة الحدود في شكل صارم. وبعد مرور شهر على ذلك التوكيل، أفاد تقرير أصدرته حكومة لوكسمبورغ بأن عدد المهاجرين الذين انتقلوا من تركيا إلى اليونان انخفض إلى النصف تقريباً. لكن هذا الانخفاض لم يمنع المفوضية العليا للاجئين من أن تذكر في بيانها النهائي أن في هذه السنة بلغ عدد النازحين رقماً قياسياً. من جهة أخرى، أشارت المفوضية إلى أن النزاعات في اليمن وسورية، ومناطق أخرى من العالم، استمرت في خلق أزمات إنسانية جديدة، معتبرة أن عام 2016 سيشهد على الأرجح ارتفاعاً غير مسبوق على صعيد النزوح القسري في العالم. خصوصاً أن الأعداد التي أحصتها أرقام المفوضية تخطت 60 مليوناً. وهذا يعني أن واحداً من بين كل 122 شخصاً في العالم أجبِرَ على مغادرة بلاده. وواجهت أوروبا في النصف الأول من هذه السنة تدفقاً غير مسبوق للمهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط، قدموا بغالبيتهم من سورية والعراق وبلدان أخرى تدور فيها حروب. واللافت أن اللاجئين السوريين يحصلون بسهولة على قرار الموافقة على السكن في المدن الألمانية. وهذا ما دفع بالعديد من القادمين من دول عربية أخرى كمغاربة وعراقيين إلى الإدعاء بأنهم من سورية لكن أضاعوا أوراق الثبوت. قرار التساهل والاحتضان حيال اللاجئين السوريين جاء بدعم من الحكومة التي تقودها ميركل الملقبة ب ”مارغريت ثاتشر ألمانيا الموحدة”. ومع أنها ولدت في مدينة هامبورغ، إلا أن العائلة اضطرت إلى النزوح إلى ألمانيا الشرقية حيث أمضت ميركل طفولتها. وبما أن والدها كان انجيلياً متعصباً، لذلك أبعدها عن السقوط في حضن الحزب الشيوعي الذي انهار مع جدار برلين في العام 1989. وفي مذكراتها، تعترف ميركل بأن عودة الوحدة الألمانية غيرت مجرى حياتها، وحفزتها على المشاركة في الحياة السياسية الجديدة. وهكذا باشرت نشاطها السياسي بتوجيه المستشار السابق هلموت شميت الذي احتضنها واعتبرها من أبناء مدينته المحببة هامبورغ. وعندما توفي خلال هذه السنة، مشت في جنازته، وحرصت على تأبينه بكلمات مؤثرة. يقول المحرر السياسي في صحيفة ”دي زايت” الألمانية جوشن بيتنر إن المستشارة ميركل اضطرت إلى تغيير رأيها بأحداث سورية، تحت وطأة المطالب الشعبية التي دفعتها الى محاربة ”داعش”. وهي تدعي أن هناك ثلاثة عوامل ضاغطة أجبرتها على تغيير موقفها في الشرق الأوسط بهدف المساهمة في الحفاظ على وحدة أوروبا. وهي في هذا السياق تنطلق من قناعة بأن الحرب في سورية تمثل مواجهة ثلاثية الأبعاد: البعد الأول يعكس حركة النظام العالمي الديكتاتوري الذي يعبر عنه بشار الأسد وحليفه فلاديمير بوتين، وهما يعملان على إحلال الاستقرار محل الديموقراطية وحقوق الانسان. والبعد الثاني الممثل بالولايات المتحدة ودول التحالف الأوروبي. أما البعد الثالث فممثل بنظام ”داعش” الذي يسعى إلى إطاحة النظامين واستبدالهما بخلافة عالمية. ويرى جوشن أن الصدام بين الأبعاد الثلاثة قد يكون تحدياً قاتلاً للوحدة الأوروبية. وعليه ترى ميركل أن تغيير مسار بلادها في الشرق الأوسط يحيي وحدة الأسرة الأوروبية. لذلك أرسلت طائرات استطلاع وطائرات إمداد بالوقود الى سورية، إضافة الى بارجة مرابضة في البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق، ترى الصحف الألمانية أن المستشارة تكافح من أجل إنقاذ لحمة التضامن الأوروبي أكثر مما تسعى الى تدمير ”داعش”. وفي رأيها أن هذه اللحمة تعرضت لاختبارات صعبة بينها أزمة اليورو، وتدفق اللاجئين إلى القارة العجوز، والهجمات التي أرعبت باريس. كل هذه القيم الجامعة لم تصمد أمام الامتحان. ذلك أن أزمة اليورو أماطت اللثام عن صِدام ثقافات اقتصادية ورؤى متباينة. كذلك سلطت أزمة اللاجئين الضوء على انقسام الاتحاد الأوروبي، والاختلاف العميق حول طرق المعالجة، فبعض دول شرق أوروبا أعلن صراحة أنه لن يقبل لاجئين مسلمين، كما يرفض حرية تنقلهم داخل أوروبا. وعبّر رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربن عن هذا الموقف المتصلب والمتعصب بإعلانه الدفاع المستميت عن أوروبا المسيحية. كذلك هدّدت الحكومة البولندية اليمينية بإنزال العلم الأوروبي عن مباني المؤسسات الرسمية، كنوع من التهديد بالانسحاب من الاتحاد، في حال استمرت ألمانيا في تطبيق سياسة الأبواب المفتوحة أمام اللاجئين السوريين! والمؤكد أن أحداث باريس الدامية قد أنعشت سياسة كراهية الغرباء في شكل استفاد منه اليمين المتطرف، خصوصاً حزب ”الجبهة الوطنية” الفرنسي بزعامة مارين لوبن التي دلت الأرقام في انتخابات المناطق على أنها قد تفوز برئاسة فرنسا. المستشارة ميركل خائفة على تصدع الشراكة الألمانية - الفرنسية، في حال وصول اليمين المتطرف إلى حكم فرنسا. وبما أن الاقتصاد الألماني القوي استطاع أن يفرض هيمنته على غالبية الدول، فإن الأوروبيين قد ينتقمون من ألمانيا بإعلان سياسة مناوئة تؤدي إلى إسقاط ميركل وحزبها ”الاتحاد المسيحي الديموقراطي”. كتبت صحيفة ”لوفيغارو” الفرنسية تقول إن أوروبا واجهت خلال عام 2015 أربع أزمات كبرى، كانت بمثابة امتحان لمستقبل عملية اندماج دامت ستين سنة. أزمة اليونان تصدّرت القائمة، بسبب صعوبة إنقاذها اقتصادياً ومالياً. ذلك أنها مطالبة بإعادة هيكلة ديونها المقدَّرة ب 180 في المئة من الناتج القومي. وقد تولّت برلين عملية إنقاذ اليونان بعدما أملت شروطها الصعبة. الأزمة الثانية التي تهدد وحدة أوروبا ناتجة من استمرار موسكو في قضم الأراضي الأوكرانية. وبادرت ميركل إلى المشاركة في مفاوضات مينسك، كونها تمثل اللاعب الأبرز في منطقة اليورو، إلى جانب البنك المركزي الأوروبي. لكنها فشلت في إقناع صديقها الرئيس بوتين بأهمية احترام الحدود المرسومة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. الأزمة الثالثة مرشحة للاختبار وربما لاستفتاء شعبي إذا ما أخفق رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كامرون في التفاوض على مكانة بلاده داخل الاتحاد الأوروبي. أما الأزمة الرابعة فمرشحة للانتقال إلى وضع أكثر سوءاً لأن ميركل آثرت أسلوب المعالجة وامتنعت عن استخدام أسلوب الحسم. كل هذا لأنها تخشى الأفول السكاني في ألمانيا، بحيث ينخفض عدد السكان من 83 مليون نسمة إلى 70 مليون نسمة بعد ثلاثين سنة. لذلك قررت استقبال أكثر من 800 ألف لاجئ هذه السنة وبذل عشرة ملايين يورو لمساعدتهم. ومثل هذا الرهان الخطر قد يكلفها ثمناً باهظاً إذا ما فشل اللاجئون في عملية التأقلم والتكيّف مع المجتمع الجديد.