بريق النصر السوري يبزغ من تدمر. هكذا أوحت الأخبار الآتية من هناك، بما فيها تلك التي تداولتها الفضائية القطرية حليفة داعش، التي نقلت بمزيج من المرارة أخبار استرجاع ما أسمته ”بنظام الأسد” لمدينة تدمر الأثرية، التي كانت آثارها شهورا مضت ضحية دمار غير مسبوق لمعاول داعش. لكن خبر استرجاع هذه المدينة لم يعجب أمريكا، رغم أنها تباكت بدموع تماسيح لهدم الآثار في هذه المدينة التاريخية، واستنكرت عملية التدمير الممنهجة التي طبقتها داعش في تدمر وقبلها في نينوى العراقية. واشنطن التي كانت تمتلك المعلومات الاستخباراتية عن كل تحركات داعش، وتعرف كل تفاصيل قوافل سياراتها عندما كانت تتجه لاحتلال المدينة، ومع ذلك رفضت إيقافها، تاركة المجال أمامها لتنفيذ المزيد من الدمار في الذاكرة السورية ليضاف إلى الدمار البشري، والبنية التحتية. واشنطن أعربت عن عدم ترحيبها باسترجاع الجيش السوري لتدمر، بتغطية من سلاح الجو الروسي، وعوض أن تبارك هذا الانتصار على داعش التي كانت تدعي أنها تقود تحالفا لمحاربتها، للتحديد من قوتها وليس للقضاء عليها، مثلما كان يردد دائما أوباما. شككت في جدية العملية، وقال الناطق باسم الخارجية الأمريكية إن ”استبدال داعش بالأسد ليس حلا” وأن الأسد هو من قوى شوكة التنظيم. التناقضات في الموقف الأمريكي اتجاه ما يجري في سوريا والشرق الأوسط عموما ليس بالجديد، فهي من جهة تدين الإرهاب، ومن جهة أخرى تدعمه بأطنان من الأسلحة التي تلقى ”خطأ” على مواقعه، كما أن قوافل سيارات الدفع الرباعية كانت دائما تسير في عمليات استعراضية جهارا نهارا، لكن أبدا لم تتصد لها قوات التحالف التي تقودها أمريكا ولم تحد من تنقلاتها بكل حرية، سواء في سوريا أو في العراق أو حتى في ليبيا، بل تروج لها إعلاميا في عملية بروباغندا للرعب وسياسة الأمر الواقع الأمريكية في المنطقة تمهيدا للعملية الجراحية الدامية التي تريد مخابراتها إجراءها في الجسد العربي. فواشنطن غاضبة ولم تنجح في إخفاء غضبها لأن حلفائها من الدواعش في الرقة وفي تدمر الذين كانت تمدهم بالمعلومات وتضمن لهم حماية. خذلوها، هناك، ولم يصدموا أمام الجيش السوري رغم الخسائر التي تكبدها هذا الأخير، و”خسارتها” المعركة هناك يعني وقوفها في موقف ضعف في مفاوضاتها مع روسيا بالشأن السوري، وأي انتصار تحرزه سوريا على حساب داعش أو المعارضة هو تعطيل لمشروعها الذي وحلت فيه في سوريا، واستعصى عليها المرور لمراحل أخرى لتنفيذه. ثم هذا التخاذل الأوروبي من كل ما يجري في سوريا والمنطقة، ألا يستحق مجازاة القارة بتفجيرات مثل تفجير مطار بروكسل والميترو، لعل الاتحاد يستفيق ويدعم أمريكا في موقفها، مما تخططه للشرق الأوسط، بل للعالم كله الذي تسعى لإعادة صياغته وفق ما يضمن سيطرتها عليه! سوريا وجيشها يقاتل من أجلنا جميعا وتكسير المخطط على صخر تدمر وقلاع دمشق هو انتصار لنا، لكن من يجرؤ على الاعتراف بهذا الفضل؟! حدة حزام *****************
البلاد في حاجة إلى عبان وبن مهيدي آخرين!
ترك الرئيس سائقه يأخذ حماما في المركب المعدني، وتنقل سيرا على القدمين إلى المدينة، بعد أن حاول الخروج بسيارة ”الدي أس”، لكنه اكتشف أنه لا يحسن سياقة السيارات، فلم يحصل أن ساق قبل اليوم سيارته بنفسه. صحيح أنه قاد مدرعات عسكرية، لكن سيارة ”الدي أس” السوداء لم يسبق له قيادتها بنفسه، كان له دائما سائقه الخاص ورجله المخلص عمي الطيب وراء المقود، فلم يكن يرتاح لأحد غيره خاصة بعدما كاد يدفع حياته حماية له من رصاصات جماعة ملاح في محاولة انقلاب أخرى فاشلة. قال في نفسه ساخرا منه ”كيف قدت بلادا وعافرت رجالا أشداء وواجهت انقلابات عنيفة، أقلها كاد يودي بحياتي، لكنني لم أقدر على قيادة سيارتي، كيف لي أنني قدت، بل أشرفت على رحلة ”دينا” السفينة المحملة بالسلاح من ميناء الاسكندرية، حتى المغرب، في رحلة محفوفة بالمخاطر في عرض المتوسط، ولكنني اليوم أكتشف أن السيارة لم أقدها يوما بنفسي، ولم أكن أعرف حتى كيف يشتغل محركها وأجزاؤها الميكانيكية، أليس هذا تقصير مني؟ وأي تقصير، اكتفيت بإعجابي بلونها وسرعتها وشكلها، ربما لأن الرئيس الفرنسي وقتها كان يركب مثلها!”. يلف نفسه في برنوسه جيدا في هذا الليل البارد، ويحرص على ألا يتعرف عليه أحد، ثم يخرج ماشيا صوب وسط المدينة التي تراءت له في ظلام الليل كأنها أشكال منحوتة في صخر عتيق، مثل مدينة جرش الأردنية. وزاد المنظر قتامة أنوار المصابيح الشاحبة تشتعل ثم تنطفئ. كان وحده يسير في الطرقات الخالية والريح تصفعه وترفع عنه شاشية برنوسه، لكنه واجهها بصلابة الرجل إياه، ذلك الذي عرفه الجزائريون شديدا أمام الصعاب، عطوفا رحيما مع الضعفاء، ومع فقراء بلده، أولئك الذين وهب شبابه من أجل إسعادهم. تلك الصورة التي لم ينجح كل من جاءوا بعده على محوها من أذهان شعبه، وما زالوا يحنون لخطبه النارية، وزمن العزة التي رفع إليها البلاد ومنحها الهيبة، حتى الشباب منهم ممن ولدوا سنوات بعد رحيله، يتبادلون اليوم خطبه عبر مواقع ”اليوتوب” ويرفعون صوره على بروفايلاتهم في صفحات ”الفايسبوك”، يوقعونها بعبارة الزمن الجميل، زمن لم يعيشونه، ومع ذلك هم يحنون إليه ولا أمنية لهم إلا أن يبعث الله فيهم رجلا من هذه القامة وبهذه القوة التي تحدت الجميع، حتى الأصدقاء المصريون على صفحات التواصل الاجتماعي ما زالوا يذكرونه بخير، وهذه ابنة الرئيس السادات تكتب عنه صفحة كاملة على جدارها، تذكر بخصاله وموقفه من حرب أكتوبر إلى جانب بلادها. لقد كان زعيما عربيا، بل زعيما عالميا، رفع صوته وصوت شعبه عاليا بين الأمم، ولهذا يحن له الكثيرون. ولكن…! وصل تحت زخات المطر ونتفات الثلج إلى وسط المدينة ثم استدار قاصدا الجامعة، جامعة مولاي الطاهر، هكذا قرأ اسمها على المدخل، ولولا اللائحة لما صدق أن هذه المباني المهترئة هي مركز جامعي، تقدم الدروس العلمية والفكرية للطلبة، الأبواب والنوافذ مهشمة، والأتربة تغطي الممرات وتحولت تحت الأمطار إلى برك من الوحل، حاول الدخول إلى المدرجات، لكنها كانت كلها مغلقة في هذا الليل، فاكتفى بجولة حولها، ثم عاد من حيث أتى، يحمل في داخله ألما ثقيلا، حتى أنه فكر بقطع الرحلة، والعودة إلى العاصمة، فكل من رآه حتى الآن لا يسر، كان يريد زيارة مصنع المياه، لكنه عدل عن رغبته، فمنظر الأحياء السكنية التي مر بها، رغم أنها حديثة البناء تعطي دليلا على أن الأوضاع الاجتماعية هنا زادت تدهورا، فكر أيضا أنه سيختفي في ركن ما ليتابع الحياة وسط المركز الجامعي نهارا، ويحاول الاطلاع على بعض الدروس وعلى حال الطلبة، لكنه مرة أخرى عدل عن رأيه، فيكفي منظر الجامعة وحالتها المزرية ليعرف أن من يؤمها ليس بأحسن منها حالا! عاد بعد جولة قصيرة وسط المدينة النائمة تحت الأعاصير والأمطار، وقد تبلل برنوسه، والتصقت الأوحال بحذائه القديم مما صعب عليه الحركة، لكنه اهتدى إلى واجهة أحد المحلات واختبأ تحتها ينتظر أن يخف المطر والرياح، وفجأة رأى أضواء سيارة تقترب منه، فعرف أنها سيارته الرئاسية. استبطأه سائقه، فخاف أن يكون حدث له مكروه أو تعرف عليه شخص ما، فسارع للالتحاق به باحثا عنه وسط المدينة. توقف أمامه فصعد الرئيس في صمت إلى الكرسي الخلفي ولم ينبس كلاهما بكلمة، وكانت نظرات الرئيس كافية لتعبر عن مرارة دفينة وحزن عميق. وصلا إلى غرفة الفندق، نزع السائق عن كتفي مرافقه برنوسه المبلل ووضعه على مدفأة الغرفة، وقدم له منامة، وأخذ منه ملابسه المبللة! في الصباح الباكر، خرج الرجلان من هذا المركب الذي لا يختلف حاله عن أحوال الجامعة وقصدا الغابات المحيطة بالمدينة، تلك المناطق التي عاشت لحظات عصيبة أثناء الأزمة الأمنية، ومن هناك عادا عبر الطريق الملتوي وسط الجبال باتجاه الطريق السريع. فقد قرر الرئيس ألا يذهب يمينا ولا شمالا، ويكتفي بزيارة تلمسان وحدها ثم يعود إلى العاصمة. ومن يدري فقد يقطع هناك رحلة عودته، لأن ما رآه من الأوضاع المزرية حيثما اتجه كاف ليعرف أن كل المشاريع التي أنجزها وتلك التي لم تكتمل قد ذهبت هباء منثورا. ما رآه وما قرأه من مخاطر تحف بالبلاد كان كافيا ليعرف أن الاستقلال كان كذبة كبيرة، وأن البلاد في حاجة من جديد إلى رجال من طينة بن مهيدي وعبان! يتبع