وأنت تتجول على جنبات المقاهي المغاربية في رمضان التي تنطق بتنوع أنتروبولوجي مغاربي مذهل، حيث كل اللهجات حاضرة ”ريفية، قبايلية، سوسية، صعيدية..”، لا تشعر بأنك في رحاب دولة أوروبية هي باريس.. علامات كثيرة تشير إلى أن المغاربة أقاموا وطنا صغيرا لهم في عقر الوسط الفرنسي. ولا شيء يوحي بأنهم تلقوا الصدمة الحضارية الغربية وتعاملوا معها بما يلزم من مرونة اندماجية.. إصرار كبير على التأصل، ورفض للاندماج والانخراط في أنماط العيش الفرنسية. حضور قصير للمقاهي الرمضانية بباريس بعد الساعة العاشرة ليلا، تكفي للإحساس بأن بعض الضواحي والأحياء الباريسية لا تنتسب إلى الجغرافيا الفرنسية.. فالجمهور المحيط بالطاولات هم من هويات وثقافات بعيدة كل البعد عن الإنسان الفرنسي بحمولته الثقافية والاجتماعية.. وما على الباحث السوسيولوجي إلا قضاء لحظات مع أبناء الهجرة ليتبيّن قيمة هذه الأمكنة في المد الهوياتي بين الأفراد، وفي التفريغ عن النفس وامتصاص الشعور بالاغتراب في هذا الشهر المبارك. والخصوصية الثقافية لهذه المقاهي المتناثرة في أحياء باربيس وسان دوني ولاكورناف وغرينيي وغيرها من الأحياء المغاربية المهمشة، أنها مزيج من العربية والأمازيغية في لسانها وتراكيبها وفي عمق مجالها الحيوي بحكم انتماء معظم روادها إلى منطقة القبايل الجزائرية وبعض مناطق الريف وجنوب الرباط.. وكل من أراد أن ”يقبض” على صديقه أو عدوه المغربي أو القبايلي، فما عليه إلا التوجه لأحد هذه المقاهي. والمقاهي بشكل عام، شكلت منذ عقود جزءا من الوعي الثقافي المجتمعي، يكبر ويصغر بحجم العلاقة بين الفرد والمكان، ونسجت مع تعاقب السنين شرائح مختلفة من الرواد لكل واحدة منها حيزها الخاص، تتجادل فيه..تمزح..وتجعل الفراغ وقتا مليئا بالدفء والراحة. فمن مقاهي المثقفين والطلبة، وأيضا السماسرة وهواة الخيول الخاسرة، ورجال الأعمال المتحايلين، والساسة المتسولين لأصوات قد لا تأتي، إلى مقاهي البطالة والتبزنيس، ومقاهي شغالات الجنس، ومقاهي الشواذ، والمقاهي صحيفة الوسط والجمعوية.. تكبر هذه الأماكن وتصغر، تمتلئ وتفرغ، تصير مراكز ثقافية أو مجمعات ترفيهية، وتبقى وظيفتها الأساسية في نهاية المطاف، تحضير صحيفة الوسط الاجتماعية بزخمها ونشازها وتناقضاتها المختلفة.