يبدو أن الدولة الأعظم في الكون، لم تعد تفرق بين الحقيقة والتخيُّل، ولا بين ما ينفع وما يضر، فراحت مؤسساتها الاستشارية "الضاغطة" تدفعها إلى معاداة العالم، ومع ذلك يتعجب الرئيس بوش وهو يسأل بسذاجة: لماذا يكرهوننا؟ المؤسسة الأمريكية "راند كوربوريشن للأبحاث" مافتئت تقدم نتائج بحوثها وفتاويها إلى البنتاغون، وقد تكون سببا في إسقاط أمريكا في كثير من المستنقعات، وجرها إلى العديد من بؤر التوتر والحروب الغارقة فيها إلى حد الاختناق، ومازالت - أي تلك المؤسسة - تحتل حيِّزا من مساحة الاستماع لدى أصحاب القرار في أمريكا، لكن أخطر ما جاء في التقرير الذي صدر مع نهاية جويلية الفارط في مائتين وثلاث وخمسين (253) صفحة، هو الوصف الذي يدل عن عمى أو جهل مطبق تجاه ثورة الشعب الجزائري، فقد صنف جبهة التحرير الوطني - التي قادت الكفاح المسلح يومئذ - بالحركة الإرهابية اليوم، وهي التي قاومت الاحتلال الفرنسي الاستيطاني البغيض، وجعلها رقما خطيرا من سبع وعشرين (27) منظمة تصفها بالإرهاب ! وإذا لم يكن غريبا على إدارة بوش الطفل خلطها للمفاهيم في مسائل حساسة، فقد دعا البيت المسمى أبيض في وقت سابق من غزو العراق وتدميره على تاريخه وحاضره ومستقبله، واحدا من كبار السفاحين المجرمين الفرنسيين الذين أسسوا لعلم الجريمة ضد الإنسانية في الجزائر، الأعور سواريس، للاستعانة بخبرته القذرة في قمع المقاومة العراقية، فإن الأغرب أن تتنكَّر هذه الإدارة لإرث أمريكا الحضاري وتتخلى عن مضامين شعارات لاتزال تنادي بها في كل المحافل، بل ُتجيِّش الجيوش الجرارة باسمها، وتشن الحروب المدمرة من أجلها، ومن بينها ضمان حرية الشعوب ونشر الديمقراطية بين الأمم والدفاع عن الآراء والمعتقدات المتعددة !! ماذا تقول أمريكا للمحافظين الجدد في تعاطف الشعب الأمريكي مع الثورة الجزائرية ، ووقوف رئيسها الراحل المحترم، جون كينيدي، مع الشعب الجزائري، وهو يسانده ويدعو بقية الشعوب إلى تسهيل عملية تقرير مصيره بعدما أعلن ثورته الإنسانية الكبرى؟ وبماذا تصف أمريكا المتهورة المتصهينة اليوم، اتفاقيات الولاياتالمتحدةالأمريكية مع الجزائر في المجالات الثقافية والاقتصادية والتجارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والرخام الجزائري لايزال قائما حتى الآن شاهدا يزيِّن البيت الأمريكي الذي كان أبيض؟ أم هو العمى الذي أصاب هؤلاء الباحثين أم جهلهم بحقائق التاريخ والدول؟! وقبل هذا وذاك، ماذا يسمي هؤلاء الثورة الأمريكية التي أثمرت الاستقلال ويُحتفل بذكراه كل رابع من شهر يوليو من كل عام، هل كان الأمريكيون الذين ثاروا على الاحتلال الإنجليزي إرهابيين يجب أن تُدرج أسماء قادتهم ومنظماتهم الثورية المكافحة في سجل المنظمات الإرهابية؟ بل هل تعتبر مؤسسة راند كوربوريشن الشعب الأمريكي لو ثار ضد غزو خارجي نزل بأمريكا بأنه شعب إرهابي وهو الذي غزا العالم من أجل شبهة الإرهاب وحطَّم دولا بالتهم التي أبطلها بنفسه فيما بعد؟! إن هذا التقرير الذي ربما يعتبر قاعدة عمل المؤسسة السياسية الأمريكية من شأنه أن يمس بتوازن العلاقات الدولية المتوترة أصلا، ويضيف إليها تشنجات جديدة، وسيؤخر بلا شك الإرادة الصادقة في تحديد مفهوم موحَّد لآفة الإرهاب حتى تتم محاصرته بتجفيف مصادر مدده، وسيؤجج النزاعات الإقليمية والدولية أكثر ويعمل على انتشارها بكيفية أسرع، وسيزيد- برأيي - في توسيع الفجوة بين الدول الصناعية المستأسدة بحق القوة، وبين الدول النامية التي لا تملك إلا قوة الحق، نتيجة اختلاف الرؤية في المبنى والمعنى معا لمفاهيم مازالت تهز العالم هزا وتزهق ملايين الأرواح من الشعوب المسالمة خاصة الإسلامية وتلتهم الملايير من ثروات الشعوب المقهورة بتهمة الإسلام وتعيد تكوين التخلف عبر مساحات كبيرة من الجغرافيا المستقلة التي حوَّلها انحسار المعسكر الشرقي إلى"نعمة" العدو المنتظر، ولكن أمريكا السكْرَى بتفرُّدها في قيادة العالم لا تريد - فيما يبدو- أن تستقيم علاقاتها مع الدول الأخرى إلا ضمن التبعية أو العمالة أو الاحتواء، وتلك ملامح الثورة المضادة التي - إن انطلقت - لا يضرها أن تسميها المؤسسات الأمريكية - الاستشارية أو النافذة - إرهابا ما دامت العبرة بالنتائج كما قال العرب في حِكَمهم وأمثالهم يوم كانوا ...