يرى فيديروفسكي، الدبلوماسي السوفييتي السابق، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتطلب العودة إلى سنوات شبابه، حيث كان يعيش في حي فقير من سان بطرسبورغ، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تلك الفترة تركت آثارها الراسخة في شخصيته وولّدت لديه رغبة جموحة في العيش وحسّا وطنيا حقيقيا على خلفية القناعة أن روسيا بلادا عانت الكثير من الظلم، وكان الجرح الكبير في حياته هو سقوط الشيوعية وضياع الإمبراطورية السوفييتية العظيمة. ويقول في كتابه الجديد انه لا شك أن الرئيس الروسي هو أحد الشخصيات المعروفة جدا على الصعيد العالمي. لكن لا شكّ أيضا أن هناك العديد من الأسئلة التي يطرحها كثيرون عن حقيقة هذا الرجل. أسئلة من نوع تلك التي يطرحها الدبلوماسي السوفييتي السابق، وصاحب الكتب العديدة عن العالم الروسي والسوفييتي السابق، فلاديمير فيديروفسكي، في كتابه الصادر قبل أسابيع قليلة تحت عنوان: بوتين.. المسار السرّي . فمن هو بوتين؟ وهل هو قيصر متسلّط؟ جيمس بوند مناور تربّى في كنف الأجهزة السريّة ويشكّل خطرا على السلام العالمي؟ أم على العكس، هو قائد متبصّر يدافع عن مصالح بلاده وعن التوازن في العالم؟ وما هي مطامعه وطموحاته في أوكرانيا؟ هذه الأسئلة والكثير غيرها مما يجول في الأذهان هي التي يحاول فلاديمير فيديروفسكي الإجابة عليها في هذا الكتاب. السمة الأولى التي يؤكّد عليها مؤلف هذا الكتاب في شخصية فلاديمير بوتين هي أنه رجل غامض وأنه حرباء بفطرته حيث يتقن كيف يتلّون حسب الظروف تبعا لما تقتضيه مصالحه. وأنه حافظ باستمرار في عمله على الطرق التي كان قد تدرّب عليها في سنوات عمله الطويلة كأحد ضباط جهازضباط الجهاز السرّي السوفييتي السابق الشهير كا جي بي ، إن بوتين، كما يؤكّد فيديروفسكي، لم يحافظ فقط على تلك الطرق بل برع فيها، ذلك خاصّة فيمت يتعلّق بخلط الأوراق بحيث لا تبدو آثار الأفعال الجارية. وتولّى فلاديمير بوتين منصب رئيس وزراء روسيا في أواخر عهد يلتسين عندما كانت الحرب الشيشانية مستعرة بقوّة. ويشرح المؤلف على مدى العديد من الصفحات كيف ناور فلاديمير بوتين بقدر كبير من المهارة حيال مجموع القوى والفئات السياسية الروسية كي يستطيع أن يفرض نفسه في النهاية ك وريث غير منتظر لبوريس يلتسين، وكي يواجه من هذا الموقع التحديات الكبرى للقرن الحالي، الحادي والعشرين . إن فلاديمير فيديروفسكي يرسم لبوتين صوراً متعددة الوجوه بحيث أنه يختبئ خلف عدد من الأقنعة. ويبدو الغموض في تعابير وجهه خلف نظرته غير المحدّدة أحيانا والعميقة أحيانا أخرى بني عندما قابلته للمرّة الأولى في مدينة سان بطرسبورغ وفي تقطيب حاجبيه بل وفي حركات شفتيه. ويقرأ في ذلك كلّه تعبيرا عن قدرة خارقة في التلوّن . نقرأ: كان ذلك على الأقل هو الشعور الذي انتابني للوهلة الأولى عندما قابلته لمرّة الأولى في مدينة سان بطرسبورغ بمطلع سنوات الثمانينيات، حيث استطعت أن ألاحظه بدقّة في محفل خاص . ومن السمات التي يؤكّد عليها المؤلف في شخصية بوتين، هو أنه طبقا لتعليمات مدرسة (الكا جي بي) للعمل الاستخباراتي، يدفع الآخرين الذين يتحدث معهم للاعتقاد أنه مثلهم وواحد منهم وأنه مرآة يمكن لكل متحدث أن يجد نفسه فيها. باختصار، يستطيع الدخول في أي قالب . ويحدّد فلاديمير فيديروفسكي القول أن لفلاديمير بوتين خمسة وجوه ساسية متباينة فيما بينها. الوجه الأول هو وجه الكا جي بي . حيث بدأت مغامرته مع ذلك الجهاز بنوع من حكايات االعفاريت، حيث كان حلمه هو أن يصبح مثل جيمس بوند على الطريقة الروسية. الوجه الثاني هو وجه سان بطرسبورغ، ففي تلك المدينة، خطّ الملامح الرئيسية لما ستكون عليه طريقة بوتين في العمل السياسية والعام إجمالا. الوجه الثالث هو ذلك الذي صاغته مرحلة الصعود القوي نحو الرئاسة والوصول إلى الكرملين. الوجه الرابع اكتسبه مع وصوله إلى الكرملين حيث كان همّه الأوّل هو أن يبدو في ملامح رجل الدولة. الوجه الخامس والأخير تزامن مع ظهور الاحتجاجات الشعبية الأولى حيال حكمه والتي أشار المشاركون فيها إلى أنهم يريدون روسيا بدونه. وهنا يفتح المؤلف قوسين كي يشير إلى الخطأ الكبير والخطير، الذي تقترفه الحكومات الغربية عندما تقارنه بهتلر. كما فعلت هيلاري كلنتون. مثل تلك المقارنة تجعل من الصعب صياغة رؤية جيوبوليتيكية للوضع الروسي. في المحصّلة يحدد المؤلف نقاط قوّة ونقاط ضعف في شخصية بوتين. من نقاط القوّة أن شعبيته لا تتضاءل ولا يزال يحظى بتأييد 75 % من الروس. وأنه تتم بسهولة مقارنة بوتين بستالين. هذا ليس مبررا. فالرقابة ليست موجودة اليوم. ونقطة القوّة الثالثة التي يؤكّد عليها فيديروفسكي هي انه نجح في فرض رسالة مفادها ضرورة عودة روسيا إلى قوتها الكبرى على المسرح الدولي. و نقاط الضعف في مقدّمتها الفساد، حيث إن 13 مليار دولار جرى اختلاسها عند تنظيم الألعاب الأولمبية في منطقة سوتشي، كما نقرأ. وحرص بوتين على عدم الاعتراف بأي ذنب على صعيد التاريخ الروسي، حيث يؤكّد على الاستمرارية من القيصرية حتى الحقبة السوفييتية.