"تماما مثل الحلزون اختارت مدينتي حماية الصخر، و كذلك النسور ، المعالم الأثرية هي الأخرى اختارت الصفاء و الصحو، وهنا وهناك مآذن تجرؤ على مشارفة القمم. من هنا يمكننا مشاهدة مئذنة مسجد سيدي راشد، تتراءى من أسفل قوس الجسر مثل أشعة دافئة، أما هو فبرج هش يدعم رغم دعائمه الأخرى". ماك حداد نور الهدى طابي طوله 447 مترا و عرضه 12 مترا، يخترق قلب واد الرمال ليجمع أشلاء المدينة التي مزقتها مياهه، ثم يرتفع شامخا على علو 105 أمتار، ليعانق أفق المدينة ويطوقها بأقواسه السبعة والعشرين، فيربط شمالها بجنوبها تماما، كشريان يضخ الحياة في قلب عاصمة الشرق أم الحواضر قسنطينة، فيمنحها تاريخا و تمنحه اسم وليها الصالح، هو جسر سيدي راشد الحجري أحد أطول الجسور و أجملها في العالم. نسخة ثانية عن جسر أدولف بلوكسمبورغ ظل جسر سيدي راشد منذ تدشينه في 19 أفريل 1912،و على مدار عقود طويلة ،أطول جسر حجري في العالم، أبدع في بنائه المهندس الفرنسي بول سيجورني، الذي أنجز بسواعد جزائرية، تحفة معمارية يجهل الكثيرون بأن توأمها في أوروبا، و هو جسر " أدولف" في لوكسمبورغ، وهو النموذج الأصلي الذي قررت فرنسا أن تنجز ندا له بالجزائر سنة 1908، فضخت لذات الغرض غلافا ماليا بقيمة 3 ملايين فرنك فرنسي، علما بأن أول من أشرف على أشغال بناء الجسر في بداياته، كان المهندس الفرنسي أوبان إيرود الذي غادر قسنطينة باكرا للتدريس بجامعة أوكسفورد، تاركا تحدي الصخر العتيق لبول سيجورني . تماما كالنموذج الأصلي، بني جسر قسنطينة من الأحجار الكبيرة المصقولة التي تم استقدامها من منطقة إيبيزا بكتالونيا الإسبانية ، بينما تم تشييد الجزء الأكبر منه باستعمال الإسمنت المسلح، الذي عمل بول سيجورني، على إدماجه في البناء بطريقة مبتكرة، اعتمد فيها على الكلس الساخن، لطلاء الصخور الإسمنتية المصقولة، فمنحها نفس لون الصخور الطبيعية وهو ما زاد الجسر متانة، وذلك حسب ما جاء في تقرير تضمنه كتاب "ذاكرة بلا جذور"في 1999، للمهندس ريني مايير، وهو أحد أشهر مهندسي الجسور و الطرقات الذين ساهموا في بناء مطار عين الباي و شبكة خزانات مياه واد بومرزوق. ميزة الجسر الأساسية هي منحنياته الساحرة التي تتجسد عبر 27 قوسا، قطر أطول الأقواس 10 أمتار، أما الأصغر وعددها 13 قوسا، فقطرها لا يزيد عن 8.80 مترا ،و توجد على امتداد الجسر، لتربط وسط المدينة بمحطة القطارات بحي باب القنطرة، كما تشكل منفذا نحو الطريق العام جنوبا، باتجاه الخروب و باتنة وبسكرة. ذكرت التقارير الخاصة بانجاز الجسر، و التي تتوفر مديرية النقل بقسنطينة على عدد منها، بأن الجسر ولد مريضا، على مستوى الجهة الشمالية الغربية التي تربط وسط المدينة بحي باب القنطرة، و السبب في ذلك هو مشكل التسربات المائية و انزلاق التربة الذي يمتد نزولا من أعالي منطقة المنصورة، وصولا إلى الجزء المتواجد أسفل القوسين رقم 6 و 5، وقد عانى منه المهندس منذ بداية الأشغال، حسبما أكده تقرير الخبير ريني مايير، الذي أشار إلى أن بول سيجورني، تمكن من تجاوز المشكل تقنيا و إكمال تحفته، لكن الانزلاق سرعان ما أثر مجددا على القنطرة و عاد ليطرح كتهديد لها سنة 1952. وقد برمجت لإنقاذ الجسر من الانهيار عدة عمليات استعجالية، كان أبرزها تدعيم الجزء المتضرر، بقوس فولاذي سنة 1979، ليتحمل ثقل المركبات و المارة و تخفيف الضغط على الهيكل العام. عملية أشرف عليها آنذاك مكتب دراسات فرنسي، و قد توالت بعد ذلك عدة عمليات أخرى، أبرزها تلك التي ضبطتها مديرية الأشغال العمومية سنة 2011، و التي انطلقت رسميا في 21 أوت من نفس العام، بغلاف مالي بقيمة 95 مليار سنتيم، لتوقيف الانزلاق و التقليل من التشوهات الناجمة عن انهيار بعض الأجزاء، حيث تمت عبر ثلاث مراحل. شملت المرحلة الأولى إنشاء فجوات تسمح بامتصاص القوى الضاغطة على الجسر، أما المرحلة الثانية و التي تطلبت ترحيل سكان الحي القصديري أسفل الجسر، فشملت تدعيم محيطه و انجاز أوتاد لتقوية الدعامة الحديدية و إنجاز مصاريف للمياه. وسيتم بداية شهر مارس القادم، غلق الجسر أمام حركة المركبات و الراجلين استكمالا لذات المخطط، إذ ستعرف المرحلة الثالثة هدم القوس رقم 5، و إعادة بنائه و ذلك نزولا عند توجيهات الخبير الإيطالي المسؤول على مراقبة وضعية الجسر الذي تشرف على ترميمه المؤسسة الوطنية " سابطا". 1912 2016 : قرن من الصمود و حسن الجوار بين مدينة و جسر في سنة 2012 احتفل الجسر بمئويته الأولى ،حيث أطفأ شمعة القرن من عمره، لكن الحدث مر مرور الكرام على من اعتادوا عبوره، و سرد القصص عن تاريخ بنائه و التخوف من احتمال انهياره. لا أحد احتفى به سوى سكان المدينة القديمة " السويقة" التي تستظل تحتمي بجسر سيدي راشد و تتبرك ببركات الولي الصالح الذي يرقد تحت جناحه، و التي يقال بأنها قد قدمت لهذا المارد الحجري 30 رجلا من خيرة شبابها، ابتلعهم وادي الرمال، بعدما سقطوا وهم يعبرون الجسر، فولدت منذ ذلك الحين علاقة قوية بين المدينة و جسرها، الذي يدفن رأسه بين ذراعيها في نقطة لقائهما عند باب الجابية، و إلى يومنا لا تزال القنطرة جزءا لا يتجزأ من جسد المدينة التي تتلون بألوان الحجر و تعبق بعطر التاريخ و الرطوبة. مثله هي أيضا مهددة بالانهيار، لكنها تقاوم و تصر على البقاء صامدة تجاوره و تحكي له قصصا عن قسنطينة التي سكنها البرابرة و الفينيقيون و الرومان و البيزنطيون و العرب و الأتراك، قبل أن يأتي الفرنسيون و يولد معهم هذا الجسر الذي بث الحياة فيها من جديد. منشأة ألهمت الرسامين والكتاب كان جسر سيدي راشد محط إعجاب و إلهام، بالنسبة للكثير من الفنانين وأصحاب الحس المرهف في شتى المجالات الذين أرادوا تخليد جمال عاصمة الشرق الجزائري، من خلال الأعمال التي أبدعوا فيها، منهم أبناء المدينة و منهم من زاروها، فوقعوا تحت سحرها، على رأسهم نجد الرسام الفرنسي بول جوبير، صاحب الرسومات المميزة في سقوف بلدية قسنطينة، و كذا مواطنه الرسام بيار ليباج، الذي رسم جسر سيدي راشد في إحدى لوحاته الخالدة، إضافة إلى ميشال فورنيل وبيير جوزلان، دون نسيان الكثير من الفنانين الجزائريين الذين خصوا هذا المعلم بقسنطينة بالاهتمام، و منحوه حيزا كبيرا من الألوان و الوصف في أعمالهم الفنية، على غرار الفنان بشير بوشريحة و بشيري خوجة و آسيا بوقرة، إضافة إلى أحلام مستغانمي و مالك حداد وغيرهم. لقد برز الجسر على ظهر أغلب الكتب المؤلفة عن قسنطينة قديما أو حديثا، باعتباره أهم المعالم المعمارية في المدينة، ومن تلك المؤلفات ''من سيرتا إلى قسنطينة''، ''ذكريات من هناك، قسنطينة و القسنطينيين''، لمؤلفته إيليزابيت فيشنير، إضافة إلى كتاب ''ذاكرة الكلمات'' و''قليل من الشمس في الظل'' لجيزيل كلوزيل. جسر الحياة و قنطرة الموت تنبض الحياة من أسفل الجسر، تماما كما تتأرجح الآمال و الأحلام من فوق أقواسه، تحته توجد منطقة للنشاط تجاري تعرف بال"رمبلي"، هناك يباع كل شيء و كل شيء يشترى، من ألبسة إلى هواتف، قطع غيار، أجهزة كهرومنزلية و غيرها، عالم آخر له أسياده، شباب ورثوا إمبراطورية الخردة و المستعمل و المسروق، عن الحقبة الاستعمارية و استمروا في مزاولة ذات النشاط إلى غاية اليوم، كما وسعوا نطاقه، لهم زبائنهم الأوفياء، غالبيتهم من ذوي الدخل الضعيف و صائدي الفرص . تماما كما يضخ الحياة في المدينة؛ يفتح الجسر ذراعيه ليستقبل الموت، فلطالما عرفت القنطرة حالات انتحار مأساوية لشباب و كهول، رجال ونساء، اختاروا علوها الشاهق، ليرموا بهمومهم منه واضعين بذلك حدا لمعاناة لا أحد يعلم حقيقتها. قصص كثيرة يرويها القسنطينيون عن المنتحرين و أسباب يأسهم، و قد سجلت آخر حالة سنة 2014 و تتعلق برجل عمره 47 عاما ، قيل بأن الفقر دفع به إلى الانتحار من أعلى جسر سيدي راشد. أما أشهر رواية ارتبطت بالجسر، فهي تتعلق بامرأة ألقت بنفسها من الجسر، لكنها لم تمت و وصلت إلى أسفل الوادي سليمة معافاة، بعدما حمتها الملاية السوداء التي كانت ترتديها، حيث انتفخت كمظلة في الهواء،و تحملت ثقل جسدها الذي لفظ الموت و تمسك بالأمل في الحياة من جديد.