رحلة بحرية من جيجل إلى العاصمة .. عندما يتحوّل السفر إلى متعة لم تعد الرحلة من ولاية جيجل إلى الجزائر العاصمة بتلك المشقة التي تتطلب الإستيقاظ باكرا وتصيد مكان في حافلة أو قطار وسط الإزدحام ونقص التهوية ومحطات سفر يعمها الضجيج والتزاحم.. التنقل اليوم من شرق البلاد إلى وسطه أصبح متاحا عبر رحلة إستكشافية مفتوحة على البحر والطبيعة الخلابة عنوانها المتعة والرفاهية. الخط البحري الجديد الرابط بين جيجل و الجزائر العاصمة، يخلص المسافرين من مشاق و صعوبات السفر برا، و يختصر المسافات بالنسبة للكثير منهم و يوفر لهم إلى جانب الراحة و الترفيه، فرصة للانتعاش و الاستمتاع بنسائم البحر و مختلف المناظر الطبيعية الخلابة. و تستقطب الباخرة "باجي مختار 2" الفائقة السرعة، التي تتسع ل 206 مقاعد، و أسندت لها مهمة الربط يوميا، باستثناء يوم الأحد، بين الولايتين الساحليتين جيجل و العاصمة ضمن خط بحري مساحته 292 كلم، اهتمام عشاق السفر و المصطافين الذين يتنقلون من وإلى ولاية جيجل، حيث يقبل الكثيرون منهم على خوض التجربة بحماس و فضول، ما دفع النصر لمرافقتهم في رحلتهم البحرية و رصد انطباعاتهم. اتصلنا بمكتب الحجز في المرة الأولى، فأخبرنا أحد العمال بأن الرحلة لن تقلع خلال اليومين المقبلين بسبب الأحوال الجوية غير الملائمة، و بعد مرور أسبوع اتصلنا مجددا، فأخبرنا بأن الباخرة ستقلع في اليوم الموالي على الساعة الثامنة صباحا. توجهنا إلى ميناء بوالديس بجيجل للقيام بالرحلة البحرية نحو العاصمة، على متن باخرة "باجي مختار 2"، فوجدنا عشرات المسافرين في مكتب خاص ببيع التذاكر، و بعد دقائق من الانتظار حان دورنا، فطلب منا الموظف بطاقة التعريف الوطنية، لملء البيانات الشخصية و بعد شراء التذكرة توجهنا إلى المكان المخصص للانتظار أمام الباخرة الراسية، هناك وجدنا الكثير من العائلات و الشباب ينتظرون إشارة الصعود ، و لمسنا فضولهم و رغبتهم الملحة لاستكشاف الباخرة و القيام بالرحلة البحرية التي كانت الأولى بالنسبة لأغلبهم. بعد القيام بالإجراءات اللازمة للعبور، كانت الساعة تشير إلى 8:45 دقيقة و سجل تأخر بحوالي 45 دقيقة عن موعد الانطلاق المحدد، أول ما لفت انتباهنا هو حجم الباخرة الكبير و احتواءها على العديد من الشاشات و درجة الحرارة المعتدلة داخلها ، فالسفينة باجي مختار 2 ، تتسع ل 206 مقاعد ، و يبلغ طولها 37 مترا، و توفر خدمة الويفي مجانا للمسافرين، بها كافيتيريا لبيع القهوة و الماء و العصير و بعض الحلويات، إضافة إلى مكان مخصص للأمتعة و ثلاثة مراحيض. بالجزء العلوي منها توجد مقصورة القبطان و مساعديه، و بالجزء السفلي الكثير من المقاعد المخصصة للركاب. بعد حوالي ربع ساعة و بعد أن ركب جميع المسافرين أغلقت بوابة الباخرة، و انطلق صوت القبطان يرحب بالمسافرين و يعرفهم بشروط السلامة الواجب إتباعها. المتعة عنوان الرحلة نحو العاصمة لاحظنا بأن أغلب الأماكن المليئة بالركاب هي تلك التي تتواجد بجانب النوافذ ، فعيون كل المتواجدين في الباخرة كانت مصوبة باتجاه البحر أو اليابسة التي كانت الباخرة تبتعد عنها تدريجيا، لتشق عباب البحر. حسان ، شاب كثير السفر أعجبته كثيرا الباخرة، لكونها وسيلة نقل جديدة أتاحت له فرصة اكتشاف الشواطئ الجزائرية، خاصة و أنه سبق و أن سافر على متن البواخر بتركيا ، فور سماعه بفتح خط بحري بين جيجل و العاصمة قرر العودة للعاصمة عبره، و قال بهذا الشأن:" تعبت من السفر عبر الحافلة فهي تستغرق وقتا طويلا بين العاصمة و جيجل خاصة في فترة الصيف، لقد قضيت مؤخرا أكثر من 9 ساعات للوصول إلى ولاية جيجل، و بعد قضاء فترة قصيرة بين أفراد عائلتي، قررت أن أعود إلى العاصمة عبر هذه الباخرة ، لكنني استغربت لعدم وجود مكان مفتوح على مستوى السطح، عموما الفضول يدفعني لاكتشاف الشواطئ بين جيجل و العاصمة على متن هذه الباخرة". أما مروان فقد فضل العودة نحو العاصمة عبر الباخرة، لنقل تفاصيل هذه التجربة لعائلته و أصدقائه، بينما أكد أسامة الذي كان متوجها على متن الباخرة نحو بجاية، بأن هذه الرحلة كانت بمثابة حلم تحقق، و ما زاد من روعتها، على حد تعبيره، أنه رفقة مجموعة من أصدقائه الجيجليين. في حين أخبرنا رب عائلة كان متجها بمعية أفراد أسرته نحو أزفون، بأنه فضل السفر عبر الباخرة ، لأنها تمنح لأطفاله حرية أكبر في الحركة و الاستمتاع بمشاهدة البحر، عكس الحافلة أو السيارة التي يجدون صعوبة في السفر فيها، لأنهم يبقون حبيسي الكراسي. و قال أحمد، أب لأربعة أطفال، بأن الرحلة نحو العاصمة كلفته 4300دج، و هو مبلغ معقول، في تقديره، خاصة و أن تكلفة السفر على متن سيارة أجرة من العاصمة نحو جيجل مع أسرته كلفته 10 آلاف دينار جزائري، أما جمال فقد اعتبر تكاليف الرحلة البحرية نحو العاصمة مرتفعة، خاصة بالنسبة لأصحاب ذوي الدخل المحدود مثله، حيث كلفته الرحلة هو وزوجته و ابنته 3900 دج في حين أن تكلفة السفر عبر الحافلة 2000 دج، فقاطعته زوجته قائلة: " لكن السفر عبر الباخرة ممتع، رغم ارتفاع سعر التذكرة"، و أخبرتنا ابنتهما الصغيرة هالة بأنها تكره السفر في الحافلة و السيارة، لأنها لا تجد مكانا للعب و الوقوف، فتشعر بأنها مقيدة بالكرسي، كما لو أنها في سجن ، لكن الباخرة توفر لها سهولة التحرك و اللعب و مشاهدة الأمواج ، و أكدت لنا بأنها ستسرد تفاصيل رحلتها لزملائها في المدرسة. خلال حديثنا مع الركاب،لمسنا عدم رضاهم لعدم عرض وجبات طعام على مستوى الباخرة، لكون الرحلة تستغرق وقتا طويلا، كما أن أسعار المشروبات المتوفرة مرتفعة، حيث يقدر سعر كوب القهوة ب 60 دج، و قارورة ماء صغيرة ب 40 دج ، أما العصير فيختلف سعره من نوع إلى آخر. باخرة فائقة السرعة تحت إشراف طاقم ذي خبرة كبيرة لدى وصولنا إلى ميناء بجاية في حدود الساعة العاشرة و النصف، ودعتنا سيدة رفقة ابنتها فهي لم تستطع مواصلة الرحلة نحو العاصمة وجهتها الأصلية، نظرا لمعاناتها من دوار البحر، و سألت أحد البحارة المشرفين على بيع التذاكر حول إمكانية تعويض جزء من مبلغ التذكرة، فأخبرها بأن قانون المؤسسة لا يسمح بذلك. و صعد عدد كبير من الركاب من ميناء بجاية، ربما أكبر من عدد الركاب القادمين من جيجل، ما دفعنا لسؤال أحد البحارة عن السبب، فأخبرنا بأن الخط بين العاصمة و بجاية تم فتحه منذ أشهر، قبل خط جيجل العاصمة، لذلك تعود المواطنون على الباخرة،و سجل تزايد في الإقبال على الرحلات البحرية، وهذا ما لمسناه لدى أغلبية المسافرين الذين تقربنا منهم. حملنا الكثير من التساؤلات إلى القبطان قنون رضا، قائد الباخرة، فاستقبلنا رفقة الطاقم العامل معه بمقصورة القيادة بابتسامة لطيفة ، و علمنا أنه صاحب خبرة تجاوزت 29 سنة على متن السفن، و أشار إلى أن الطاقم العامل ب"باجي مختار2 "، يقدر ب7 أشخاص في الحالة العادية، و هم عادة قائد الباخرة ، كبير المهندسين ، ضابط سطح ، و 4 بحارة لإرساء الباخرة و ضمان سلامة و خدمة المسافرين داخل الباخرة، بالإضافة إلى المكلف بالكافتيريا ، و قد يصل أفراد الطاقم أحيانا إلى 9 أفراد. و خلال تواجدنا بالمقصورة، لاحظنا صعود بعض الركاب، رفقة أحد البحارة لمشاهدة البحر من الأعلى و التعرف على تجهيزات الباخرة و التقاط صور تذكارية. و أثناء نقلنا لانشغالات بعض الركاب، رد القبطان بصدر رحب، فعن سبب تأخر الباخرة عن موعد الانطلاق المحدد على الساعة الثامنة صباحا، أرجع الأمر إلى تأخر المسافرين في عملية الحجز و قدومهم في الدقائق الأخيرة قبل موعد انطلاق السفينة، مشيرا إلى أن عملية الحجز تتطلب وقتا، بسبب البيانات التي تقدم لدى شراء التذكرة. أما عن سبب عدم وجود فضاء مفتوح على مستوى سطح الباخرة، قال القبطان بأن "للباخرة خصائص، فهي ذات سرعة فائقة تصل إلى 26 عقدة، أي ما يعادل 60 كلم في الساعة، فهي مخصصة للنقل السريع عبر البحر، و ليس لرحلات الاستكشاف ، و ذلك ما يترتب عنه إجراءات أمنية صارمة ووسائل تنبيهية في حال فتح أحد الأبواب لضمان سلامة المسافرين، "لكننا كطاقم لا نمنع المسافرين من الاستمتاع بالبحر و التقاط صور تذكارية على سطح الباخرة و يكون ذلك تحت إشراف أحد العاملين". بالنسبة لعدم بيع وجبات غذائية بالباخرة، اعترف بأنه قام بتوجيه هذا الطلب للمؤسسة تحت إلحاح المسافرين الذين يقضون وقتا طويلا في السفر بين جيجل و العاصمة. وبخصوص عدم وجود طبيب أو عيادة خاصة على متن الباخرة خاصة و أن الكثير من الركاب يصابون بدوار البحر، أوضح قائد الباخرة بأن كل أفراد طاقمه يمتلكون خبرة و شهادات في تقديم الإسعافات الأولية. لكن في الحالات الطارئة، و حسب ما هو متعارف عليه، يتم الاتصال بوحدات التدخل السريع لحراس الشواطئ لنقل المريض، مشيرا إلى أن المسافر و قبل انطلاق الرحلة يمكنه أن يتناول دواء يقيه من دوار البحر، و أضاف محدثنا بأنه و في بعض الأحيان يجد صعوبة في التعامل مع الركاب الذين يرفضون سماع الموسيقى التي يتم تشغيلها لدى انطلاق الرحلة لمنع سماع صوت المحرك. تصرفات غير مسؤولة من بعض الركاب يواجهها طاقم الباخرة بحكمة بعد ساعتين من الزمن وفي حدود منتصف النهار و 35 دقيقة، وصلنا إلى ميناء أزفون بتيزي وزو، وأثناء نزول الركاب،لاحظنا بأن بعضهم تركوا بعض المأكولات في الأمكنة التي جلسوا بها، و قال لي أحد البحارة: لا تستغرب سأخبرك بعد قليل". وبعد إغلاق بوابة الباخرة سألنا عن عدد الركاب المتجهين نحو العاصمة، فأخبرنا قائد السفينة بأن الباخرة انطلقت وعلى متنها 86 راكبا من ولاية جيجل، نزل 14 راكبا بميناء بجاية و صعد 45 شخصا من هناك، أما بميناء أزفون فنزل 4 ركاب ، و صعد 11 راكبا، ليصبح بذلك عدد الركاب المتجهين إلى العاصمة 124 مسافرا. توجهنا بعد ذلك نحو البحار الذي حدثنا عن بعض السلوكات غير المرغوب فيها، فأخبرنا بأنه و بقية البحارة يطلبون باستمرار من الركاب عدم ترك بقايا الطعام في الأرض، و عدم نزع أحذيتهم، و عدم الوقوف بالباخرة، حتى يتجنبوا الانزلاق أو الوقوع في حالة وجود اضطرابات جوية، لكن القلة القليلة فقط تحترم التوجيهات، معتبرا بأن طبيعة عملهم تتطلب التعقل و حسن التعامل مع الركاب، لأن خدمة الركاب شرف بالنسبة إليهم،كما أكد، مشيرا إلى أن الكثيرين طالبوا بتغيير اللافتات التوجيهية المكتوبة باللغة الإيطالية، إلى اللغة الأكثر استعمالا لدى الجزائريين، لكن لم يتم ذلك بعد. بعد رحلة بحرية استغرقت 6 ساعات و نصف، مررنا خلالها عبر ثلاث محطات ضمن خط بحري يقدر ب 292 كلم، وصلنا إلى الجزائر العاصمة في حدود الساعة 15:30، بدأ المسافرون في جمع حقائبهم و الاستعداد للنزول،و أجمع الركاب الذين تحدثنا إليهم بأنهم مستعدون للسفر مجددا عبر نفس الخط البحري.