الطيب صالح طهوري لا تفتحي البابَ.. هذي الجبال البعيدة لي.. حافيًا سأوجه وقع خُطاي إليها.. وهذي الصخورْ.. لا تفتحي.. سأنام على أي عشب ينام.. سأنام على حجر النهر أو حجر الصمت أو حجر الريح تتلو مداي.. سأرتب كفيَّ، هذي الأصابعَ، وجهي.. كما رتبت دفأها شاردات الغيوم التي تعبر الآنَ.. لا تفتحي.. البحار التي تتماوج في ركبتيَّ دمي.. ستفتح أحضانها.. السهول التي تتعانق في ليلها جهتاي.. هناكَ على كتفيَّ توزع نجْماتها.. السيول التي تجرف الشجر الساحلي َستجرفني.. سأنام هناك سعيدا.. سعيدا.. سأنام.. لا تفتحي الباب لي.. لا تفتحي *** في غابر من عصورٍ رأيتكِ.. أنجبْتِني.. وكنتُ أباكِ.. وكانت مياهك تحرق شمس ضحايَ.. المدى كان تلك الفيافي التي لا تعودُ.. الصدى كان كهفي الّذي باضت الريح فيه عويل المساء.. خلف ثوبك ظلي مشى سابحًا في الغروب هنالك.. كالشجر البابليِ خفيفًا.. خفيفًا مشى.. كان كالنخل يعلو ويعلو.. وكانت عراجين كفيك شوكا، غبارا.. كنت أمشي وحيدا.. وأبعد من تربتي فيك كنتِ.. وكان الردى.. *** لم أمت.. متِّ أنتِ هنا.. لا.. لن تموتي.. رمادك ماء.. وكفي ضمأْ.. رحت أمشي على الرمل وحدي.. هنالك.. كانت أفاعي السواد تسد كهوفك.. تلك التماسيح كانت تحاصر نهرك ذاك البعيد البعيدْ.. لا ملجأ الآن ليَ.. ولا ماء في القربة الضابحة.. لا نخيل أرى.. لا دخان.. كنت وحدي.. وحيدَك..لاإخوة.. لا رغاءَ.. ولا حدو لي.. لا رجاءْ.. الذئاب، الضباع، الثعالب كانت سهاديَ في الأفُق اللولبيِ.. وتلك النجوم التي تتلألأ كانت تذر رمادك في السهل حيث النحيب عليك دم يتخثر في شفتيَّ اللتين غرزتِ أظافر ريحك في لحم صمتهما.. *** مر عصر من الحجر الصلدِ.. عصر من الرعي.. عصر من السيف.. عصر من المنجنيق.. وعصر من الفاكهة.. مرت الجلجله.. كنتِ أنت هنالك.. أيضا هناك ..هنا.. كانت الحرب قد أثخنت جسدي.. ولم يٌعد النهر عشبته ليدي.. والدماء التي غبرتني عميقا بكت جثتي.. كنت أكثر من جثة في مدايَ.. ملايينَ كنتُ.. وكنتِ الجثثْ.. رحت أجمعني، صمتَك الوتريَ غريبا.. رحت أجمع فيك ضلوعي التي هربت منك نحو الشطوط التي سيجت لهثها بالصخور العتيقةِ.. كان المدى عسسا.. والرصاص الصدى.. أحث الخطى كنت.. كانت جبال الغروب التي أحرقت غابها الطائرات شهيقا.. وهذي الحقول العماء.. قلتُ لي: صوت دنيا سمادٌ.. وهذي السّماء هنا جهتي القاحلة.. لم تكن زهرة العمر قد نبتت بعدُ.. لم تكن الكف منك إليَّ الرحيلْ.. كان في الآه ما لا أرى.. كان في الآه صخر العويل.. *** مر عصري الّذي كان عمرا يجيء وعمرا يسيرُ.. عصورك مرتْ.. تجاذب خطوي خطاكِ.. خطاك خطايْ.. سفنا من نُواح رأينا.. محملة بالعباد، الطيور، الوحوش، النعاج، الأفاعي، الزرافاتِ.. والوردِ أيضا.. وعشبِ الصدى.. كنتِ أنتِ.. وكنتُ.. هنا.. جبلا كان يعلو ويعلو.. رسونا هناكَ.. قرأنا دفاتر أيّامنا.. لم يكن غيرَ ما كان.. كان حوت هناك وحوت هنا.. كانت الأرض تأكل أبناءها.. في الصديدْ.. كانت الأرض هذا الفحيحَ الشديد.. *** افتحي الباب لي.. لا غيوم أرى غيرَ غيمكِ.. لا كهفَ.. لا نهرَ.. لا سهل.. لا بحرَ.. لا.. أراك هناك.. هنالك.. أيضا هنا.. تعبتُ.. تعبتِ معي.. تعبت هذه الريح فِي.. تعب الليلُ.. هذا النهار الشريدُ.. وهذي الدماء.. افتحي الباب لي.. لأنام.. *** أحبكِ.. كلّ العصور إليك أوجهها.. أحبك.. كلّ الطيور إليك تصير مدايَ.. وأنت الغمام... *** افتحي الباب يا فرحتي.. افتحي.. لأنام.. قليلا، قليلا..