أدب الرحلة لم يفقد بريقه * أدب الرحلة يمكن من معرفة خصوصية المجتمعات وأبعاد كلّ هُوية يرى الباحث والأكاديمي الدكتور عيسى بخيتي أنّ أدب الرحلة وعلى الرغم من الأحكام التي تصدر من هنا وهناك حول ما يتعلق به، والاِعتقاد بأنّ فن أدب الرحلة لم يعد له أي شأن في هذا العصر، هي كلها أحكامٌ جائرة ولا تنطوي عن روية وتمحص. لكن عزوف الكُتّاب عن هذا الفن وعدم كتابة تجاربهم الرحلية، ساهم في ندرة وقِلة أدب الرحلة في الجزائر. موضحاً في هذا السياق أنّه -أي أدب الرحلة- ورغم تعثراته إلاّ أنّه لم يفقد بريقه وهو بنفس المستوى مع الأشكال التعبيرية الأخرى، وأنّه لا يقبع في الدرجة الأخيرة، وأنّ الاِهتمام به هو من يحتل هذه الدرجة. بخيتي يرى أيضاً أنّ النقد في مجال الرحلة منعدم. كما أشار في نص هذا الحوار إلى أنّ الوسائل التكنولوجية غيّرت في بنية النص التحتية للرحلة، وأثرت على النص التقليدي. للإشارة، للباحث والأكاديمي عيسى بخيتي، مجموعة من المؤلفات العلمية والبحثية، منها كتابه الموسوم ب»جمهرة الرّحلات الجزائرية الحديثة في الفترة الاِستعمارية 1830/1962»، والّذي جاء في7 أجزاء متبوعة بدراسة أخرى بعنوان «أدب الرحلة الجزائري الحديث/ سياق النص وخطاب الأنساق». وهو الكتاب الّذي فاز بجائزة اِبن بطوطة لأدب الرحلة، في دورتها لعام 2016. حاورته/ نوّارة لحرش أدبُ الرحلة لا يقبع في الدرجة الأخيرة إلاّ أنّ الاِهتمام به هو من يحتل هذه الدرجة معظم اِشتغالاتك في/وعلى «أدب الرحلة». كيف هو برأيك حضور هذا النوع من الأدب في الجزائر وفي العالم العربي؟، وماذا عن حاله وواقعه؟ عيسى بخيتي: على الرغم من الأحكام التي تصدر من هنا وهناك حول ما يتعلق بأدب الرحلة، والاِعتقاد بأنّ هذا الفن لم يصبح له شأن في هذا العصر، فإنّنا نقول بأنّ هذا الحكم جائر، ولا ينطوي عن روية وتمحص، لعل تغيّر نمط الحياة، وتغيّر نمط الأشكال الأدبية هي التي سرّعت في هذا الحكم، في ظل لا مبالاة النقد (في اِعتقادنا) حيثُ عزف هذا الأخير عن وظيفته ليس على مستوى أدب الرحلة، بل حتّى على مستوى الشِّعر والرواية والقصة، فما يبدو لنا أنّه اِهتمام، فهو في الحقيقة قصور أدّت نتيجته إلى قلة المقروئية، لأنّ النقد هو بالإضافة إلى وظيفته المعيارية، فهو ميدانٌ للتشهير والتحفيز على القراءة. إنّنا نقول بأنّ أدب الرحلة اِعترضه ما اِعترض أشكال أدبية أخرى، فهو لا يزال يُزاول مهامه، لأنّ المبدع هو في الأخير نمطٌ ثقافي يعج بالمشاعر، ويتدفق بالأسلوب، يخترق شكلاً أدبيًا وفق توجهه وقوته التعبيرية، منهم من يتقوّل الشِّعر، ومنهم من يتقوّل القصة أو الرواية، ومنهم الخاطرة، والمقالة، والرحلة وغيرها، لذلك لا يمكن لشكل من الأشكال الأدبية أن يترك ساحته، حتّى أنّ المقامة الأدبية لا يمكن لنا أن نسحب منها اِعتمادها كجنس أدبي ولو أنّ مقعدها الأجناسي يبدو أنّه شاغراً حاليًا، إلاّ أنّه لا يمكننا أن ننفي على من يكتب في هذا الفن. ومن هنا نقول بأنّ أحوال أدب الرحلة كغيره من الأشكال الأدبية إن كانت بخير فهو بخير، وإن كان يعوزها شيء من الفنية، فهي كذلك، وما النظر إلى الرحلة بهذه العين المريبة إلاّ لأنّ شكلها اِختلف، وهو أمر طبيعي فرضته معطيات العصر، فاستجاب دون أن يقطع الوصل، وألف هذا النموذج فائتلف. المهم في ذلك أن نسميه بالرحلة المعاصرة، أي أنّها اِستجابت للعصر شكلاً ومضمونًا، ولا يمكن بأيّ حال أن تنسحب الرحلة كمجال فنيّ. وما يمكن الدعوة إليه هو تكثيف الجهود حول تبني حدود الجنس الأدبي بالنسبة للرحلة اِعتباراً من نظرية الأدب. أنا متفائل جداً، ولي نماذج أحتج بها في هذا الشأن سواء داخل الوطن (الجزائر) أو خارج الجزائر، إنّ الرحلة اليوم صارت نزوة كتابة تفرضها طبيعة زيارة الأمكنة، فتستجيب ذخيرة الكاتب فتحوّل ذلك السجل اِنطلاقًا من مرئيات بعينها، في حين كان في الرحلة التقليدية له مجال خاص وهو الاِستطراد. لماذا برأيك معظم الكُتّاب في الجزائر ورغم سفرياتهم الكثيرة إلاّ أنّهم لا يستثمرون رحلاتهم في هذا المجال من الكتابة؟ عيسى بخيتي: هذا صحيح، إنّ عدد المسافرين من النّخب اليوم في اِزدياد، والغريب أنّ كلّ هؤلاء ممن اِلتقينا ومِمن لم نلتقِ، كلٌّ منهم يعبّر بشكل من الأشكال عن تجربته في سفره، وعن مقايساته، وعن ما يمكن لبلدنا أن تتّخذه كتجربة للوصول إلى ما وصلت إليه الأمم، وكلٌّ يروي قصصا طريفة ومشوقة، ومنهم من يروي النوادر، ومنهم من كانت له حوارات مع شخصيات مهمة، إلاّ أنّ ذلك لم يسمح ولم يدفع بهؤلاء لكتابته كنموذج لتجربة جديدة تنضاف إلى عديد التجارب فيكون لها مجال على المستوى الفني والمعرفي. إنّه في اِعتقادي أنّ أمر الكتابة يعود في الأساس إلى الخمول والكسل الّذي لا يبرح هذه الفئة، خمولٌ في الكتابة، وكسلٌ على إيجاد سبيل للنشر، ثمّ إنّنا لا نُؤمن بهذه التجارب كفعل ثقافي، اِعتقاداً منا أنّ مجال كلّ تجربة هو لا يتخطى مشافهة المعارف من النّاس، كما أنّي أعرف من الأساتذة من له قلم فني وهو يكتب عن كلّ تجربة إلاّ أنّ كلّ ما يكتبه يبقى حبيسًا عنده، وهو بؤرة التناقض التي نسعى إلى اِستئصالها، كما أنّ هؤلاء لا يؤمنون بأنّ هذه الكتابة سوف تزرع نشاطا ثقافيًا أو تثريه فنيًا، أو تغير في مستويات الكتابة والتحوّل في الخصوصية المعرفية. ومن جهة أخرى الكثير من هؤلاء يعتقد أنّ كتابة الرحلة لا يزال يحتكم إلى النمط القديم في الشكل، فتبدو له هذه التجارب مغامرة مشكوك في نتيجتها. كلّما عزف الكُتّاب عن رواية تجاربهم كلّما تقلص حجم النصوص هل يمكن القول أنّ عزوف الكُتّاب عن هذا الفن وعدم كتابة تجاربهم الرحلية ساهم في ندرة وقلة أدب الرحلة في الجزائر، وأنّ هذا العزوف أيضا جعل أدب الرحلة في الدرجة الأخيرة؟ عيسى بخيتي: أجل؛ كلّما عزف الكُتّاب عن رواية تجاربهم، كلّما تقلص حجم النصوص، لكن هل حقًا أنّ الكتابة الرحلية قليلة التمثيل إلى هذا الحد؟ لا أعتقد ذلك؛ بيد أنّ الكثير مِمن يكتب هو غير ملزم باِختيار مساحة واحدة، وهو مِمَّا يصعّب الحكم، ومِمَّا يصعب حتّى معرفة حجم هذه المدونة، الكثير منهم يكتب على وسائل تكنولوجية مثل شبكة الاِنترنيت بمختلف نوافذها، وهذا الكثير لا تزال المؤسسة الأجناسية في حيرة عن كيفية إدراجه إلى مصاف النصوص الرحلية، إنّ هذه حرية في الكتابة ولكنّها قد خلقت لنا متاعب من حيثُ التبني. وأدبُ الرحلة لا أعتقد أنّه يقبع في الدرجة الأخيرة، إنّ الاِهتمام به هو من يحتل هذه الدرجة، بينما مثول النص فمن المجازفة الحكم بهذا، لأنّ أدب الرحلة لم يفقد بريقه، وهو بنفس المستوى مع الأشكال التعبيرية الأخرى. وهل الشِّعر يحظى باِهتمام شرائح كبيرة من المجتمع لولا الهالة الإعلامية والنقدية التي يحتلها؟ إنّه جدير بنا أن ننهض برصد كلّ الأحوال المتعلقة بالقضايا الأدبية، منها من نفختها الشهرة، ومنها من دفع بها النقد، في حين تغافل النقد عن الرحلة مِمَّا أدى بالذين هم بعيدون عن هذا المجال باِتخاذهم هذه الأحكام. وما يمكننا الاِحتفاظ به كحكم، أنّ النقد في مجال الرحلة منعدم، ولا يمكن لحال الرحلة أن تنهض وتستمر على طريق واضح إلاّ لما يكون لها من الدارسين والنقاد. من جهة أخرى، هل حقّا الرواية والتحقيق الصحفي أخذا مكان أدب الرحلة في الجزائر؟ عيسى بخيتي: الرواية جنس أدبي، والرحلة جنس أدبي مختلف، قد تتقاطع نصوصهما إلاّ أنّ النتيجة لكلّ له شأنٌ يُغنيه. للرواية قُصّاد وللرحلة قُصّاد، تبقى قضية القارئ وما يختار لنهمه. والحقيقة أنّ هذا عصر الرواية والقصة بامتياز، وما تمتاز به الرواية لا تمتاز به الرحلة، لأنّ الرواية طافحة بالتخييل، والرحلة تقل فيها درجة التخييل، كما أنّه في اِعتقادنا أنّ الرحلة في غالبها تميل إلى التقرير، وهو ما يؤدي إلى يسر النص وسرعة التفاعل معه، وانقضائه مع آخر كلمة منه. في حين تبقى الرواية حُبلى بالدلالات بالإضافة إلى إستراتيجية بنية النص الروائي الّذي قد يسلب جمهور القرّاء باِتجاهه، وهو عامل من عوامل تقليص جمهور الرحلة. كما أنّ قارئ الرواية من جهة أخرى لا يكلفه قراءة نص رحلي، فالقارئ الّذي ينخرط في السلك الأدبي (في اِعتقادي) يجد متعة في قراءة النص الرحلي (غير المكلف) إلى جانب الرواية. في حين لا يمكن اِعتبار الريبورتاج والتحقيق الصحفي إلاّ اِبنًا شرعياً للرحلة. ماذا عن التكنولوجيا. هل أثرت هي الأخرى على نص الرحلة التقليدي، وساهمت في تقهقره، أو في اِندثاره؟ عيسى بخيتي: بالفعل؛ لقد غيّرت الوسائل التكنولوجية في بنية النص التحتية للرحلة، إذ لا يمكن اِعتبار السفر سفراً إلاّ إذا ما اتخذ وسيلة من وسائل التنقل، ولما كان السفر قديمًا يعتمد على الدابة أو على المشي، فإنّ ذلك كان يشكل مسافة سردية بقدر معاناة ذلك السفر الّذي كان يستمر لمدة زمنية طويلة، إضافةً إلى ما كان يجده المسافر من عقبات ومفاجآت، تجعل من نصه مشبعًا بالأحداث، ودليلاً للطريق، ومستكشفًا للمعالم والأماكن، فكانت هذه المسافة بمثابة عمود النص الفقري، أمّا اليوم وقد أصبحت وسائل النقل يسيرة ومتطورة توفر للمسافر الراحة، وتبعد عنه تكلفة العناء والمفاجآت، وبات حيزها الزمني لحظات، لا يتمكن الكاتب (الرحالة) حتى في تأمل تلك المسافة، وكان هذا عاملاً أساسيًا في تأثيره على النص التقليدي، بل في عمومه قد اِندثر واستحال إلى نص بمنحى آخر، ومنه يمكن القول بأنّ النص التقليدي قد اِندثر، وفقد حلقة، أو حلقات من سلسلته السردية، ولكن إذا كان هذا قد أثر بشكلٍ من الأشكال على النص التقليدي، فإنّ الرحلة تجسدت في نص جديد له حضور في الساحة الأدبية، فهو يمثل مختلف القضايا كالمقايسة والنقد الذاتي، واستعراض الأساليب. ولم تكن وسائل السفر وحدها التي أثرت في نص الرحلة التقليدي، بل هناك وسائل تكنولوجية أخرى، أهمها دون منازع وسائل الاتصال، وخاصة التلفزيون والاِنترنيت التي تفننت في تقريب العالم، وتقليصه إلى كيان صغير، برصدها للصوت والصورة لمختلف أمكنة العالم بل حتى في أعماق البحار. فهل هذا الاِستكشاف يجعل الرحلة تفقد خصوصيتها كمتن أدبي مليء بالتشويق، والبنى المختلفة المشكلّة؟، في الحقيقة لا أعتقد ذلك لعدة اِعتبارات، لأنّ النص الرحلي هو حكاية وبنيتها الحقيقية تكمن في إستراتيجية نصها الفنية، وليست المرئيات هي سبيل كلّ عين، والجواب على هذا تفصيلاً لا يمكن في هذه المساحة الضيقة، وإنّما هي إشكاليات تحتاج إلى تقصي وتفصيل. يجب دفع الباحثين إلى تبني الأعمال الأكاديمية في مجال الرحلة مع التحسيس لذلك بملتقيات وطنية ودولية كيف يمكن برأيك إعادة الاِعتبار لأدب الرحلة، وهل الجوائز العربية مثل جائزة اِبن بطوطة كفيلة بأن تساهم في إحياء فن أدب الرحلة أو إعادة الاِعتبار له؟ عيسى بخيتي:إنّ المؤسسة القائمة على هذا المجال، والمتمثلة في المركز العربي للأدب الجغرافي، واعية كلّ الوعي لما لأدب الرحلة من خصوصية، ولما له من إمكانية لمعرفة خصوصية المجتمعات وأبعاد كلّ هُوية، فهي تجتهد مند ما يزيد عن سبعة عشر سنة من أجل أن يبقى هذا الفن قائمًا، بل تسعى إلى جمع شتات النصوص الرحلية العربية التي تمثل هُوية المجتمع العربي، وخصوصيته الحضارية، ولقد أعادت هذه المؤسسة الاِعتبار لهذا الفن. لو تمحصنا في تاريخنا القريب، فإنّنا نقول بموضوعية أنّ المستشرق الروسي كراتشوفسكي هو من اِبتكر هذه البدعة «بدعة النهوض بأدب الرحلة» من خلال كتابه «الأدب الجغرافي العربي»، ولعلّ هذا الجهد قد تأسس لاِعتقاده أنّ الأدب الجغرافي أدبٌ موجه يقابل شبكة حضارية لا تتقصى إلاّ في خصوصية الخطاب الّذي يحمله المتن. وما يجب على الأوطان إلاّ أن تتبنى كلٌّ منها مؤسسة تشتغل على هذا الفن، وإعطائه مجالاً في المؤسسة الأكاديمية، الّذي يبدو الاِهتمام به محتشمًا، وأهم من يتبنى ذلك (في اِعتقادي) هيئة مثل مخابر البحث، ودفع الباحثين إلى تبني الأعمال الأكاديمية في مجال الرحلة. مع التحسيس لذلك بملتقيات وطنية ودولية.