ف.ياسمينة بريهوم في مجموعتها "رسائل إلى آدم"الصادرة سنة2011 عن دار ميم التي تسيّرها لا تكتب آسيا علي موسى(كاتبة ومترجمة) إلى رجلٍ لتغرق في مشاعر تُتهم بالمراهقة دائماعندما تأتي من أنثى بما يذكيها من منع وكبتٍ- على أنّ اللغة عندنا كم تحتاج إلى أحاسيس الإناث البعيدة عن ثقافة الرجل ورؤيته-إنّما تكتب لتُسائلنا عن هذه الروح التي تصدّعت ذات خطيئة لتربك نظام الأشياء والأحاسيس والوجود نفسه وربما ليكون بعد أن كان عدما، وترسم تفاصيل الذات التي كانت واحدا قبل أن تنطلق في رحلةالفجيعة التي لا تنتهي من آلاف الغربات،بلغة معجونة بماء التصوّف والواقع دقيق اليوميّ الباهت الذي يضيق بأحلام لا تغادر الأرواح القلقة:"مِن وأنا طفلة،لم يكن العالم في عينيّ كما هوأمامي،بل كما أحلمه..."ص16 نبدأ في تقصي هذا الوجع الذي يقسم كلّ آدم-ذات مكتملة(رجل وامرأة) من صورة الغلاف (للتشكيلي الروسيّ فلاديمير كاش) التي تجعلهما طرفا مقص تحتهما أوراق و أوراق لا يكتمل وجود أحدهما إلاّ بالآخر، وأحسبها صورة تعرض عمق المجموعة التي قدّمت لها الكاتبة بقصيدة للويس آرغون "نشيد الأناشيد" ومفتتحه:قضيتُ في ذراعيكِ النصف الآخر من الحياة،عندما في اليوم الموالي للخليقةوبين أسنان آدم وضع الله أسماء كلّ شيء..."وهو نص يلخّص وعي الشاعر والكاتبة-لا شكّ في ذلك -بأنّ الحب هورأب ذاك التصدّع الذي تولد كلّ روح بوجعه مشتاقةً إلى نصفها الذي به تزهر مشاعرها ومسيرتها في الحياة. فلماذا يخاف البشر قدرهم ولا يسمعون كلمات الإناث وهنّ يحافظن على روح العالم والحياة من الدمار الذي يفرضه الرجال؟ بعد إهداء يدقّ قشر الإحساس الذي تعوّد الكلام النمطيَّ:إليهما نفسي ونفسي، تخيط الكاتبة "للشمس عينا في القفا" القفا الذي عادة لا أحد يراه أو يستقصي أثلامه وما انكتب على أرضه فماذا ستقرأ وترى هذه الأنثى المبتورة من آدمها؟وماذا ستقول لنفسها الضائعة منها كلّ هذه المجرّات؟ تستعمل الكاتبة الرسائل بما أنّها وسيلة الإتّصال الوحيدة الممكنة لديها لتسجّل غربتها ووحدتها لتذكرنا بنساء كثيرات في لغات أخرٍ تبادلن الرسائل لخلق جسرهن إلى الآخر في عالم تعوّد ألاّ يسمعهن،مؤكّدةً أنّ روحها المشوّهة – الناقصة إنّما آلت إلى هذاالمسخ الذي لبسته بسب آدمها الذي خيّبها إذ لم يُسوَ خلقه بعد! وعبر هذه الرسائل –القصص تشركنا آسيا في الوقائع التي تزيد في تكتّمها في عالم لا يفهم شوقها إلى تلك الروح التي خسرتها ذات موعدٍ في حياة كانت أو حياة مماثلة، أو أنّ زمانهما لم يكن واحدا،غير أنّ التجاهل والاستمرار اللّذان يفرضهما واقع لا يفهم إلاّ الجِراء والجرذان لا يعني أنّها غير محتملة الوجود"جسدي ذبل منذ انحناءة الضلع الأعوج إلى صدرك.لقد كان هناك جزءا من جسدك، وهاهو يتوق إلى التوحّد بك مرة أخرى..."ص16 من خلال خيوط حكايتين إذًا تواصل الكاتبة في رسائلها تفاصيل امرأة موغلة في الصمت والتأقلم مع واقع لا يسهّل رحلتها نحو كينونتها فيقلّبها على جانبي الحيرة من أمرها، وعدم قبول اختلافها فلا يعسر علينا أن ندرك مأساة المرأة الواعية- الكاتبة تحديدا- التي لا تقاسم المجتمع عاداته وتخاريفه ومخاوفه إذ يركن إلى الخرافة والعادة ولعلّها جدّ واعية لدرجة أنّها تتسلّى بإخافة جارتها التي تستفسر عن سرّ الحركة في الغرفة التي تسكنها كأنّما لتقول:إنّ هذه العقول الغارقة في يومياتها لا يمكن ان تستوعب الحياة الأخرى التي يلدها الوعي أسئلة وغربة"مازلت أصنع الرعب في قلب جارتي بحفيف أقدام أجرّها..."ص31 لتلوذ بالفرار إلى أعماقها منكفئة على وجعها. ومن خلال الرسالة السادسة التي عنونتها بِ"يوسف"لا تتوارى الكاتبة خلف السؤال بل تجهر به وهي تعلن لهذا المجتمع الذي يلبس الدين بمقاسات تخدم دائما الرجال لماذاعلى المرأة دوما ان تتحمّل مسؤوليّةمايقاسمها الرجل فيه مع أنّه قد يكون أخفّ بكثير ممّا يقدم عليه الرجل:"وحدها امرأة العزيز "بخطاياها" كانت تشغلني"ص32 وحين تعلن هذا لا تطالب آدمها أن يكون ملاكا أونبيّا ليغفر فهو آدم من لحم ودم فقط تذكره بان يكون غير قاسٍ ص34 ثم تلوم الكاتبة نفسها إذ قبلت وضعها أوهي تعوّدت أن تكون على ما هي عليه لنمسك بخيوط صراع يتجاذبها، وهي تعيد إلى أذهاننا النظريّة الشرطيّة عند بافلوف وليس هذا تأثير اختصاص آسيا التي درست الرياضيات ودرّستها الوحيد في كتابتها فهي تستعمل الأشكال الهندسيّة والأرقام والأبعاد حتى يكون في لغتها مذاق جديد يرسم ملامح قلمها الواعي المزاوج بين صرامة التجريد والمنطق، والإحساس وعادة الإناث أن يتحيّزن إلى لغة تقول طبقات العاطفة البسيطة المألوفة فلنتأمل ماكتبته من الصفحة38 إلى40. بقصة "المسيح" توغل آسيا في المعاناة التي تكابدها الإناث من مريم عليها السلام أو قبلها وتجعل من الألم تاريخا وحيدا للمرأة لتستعيد آلام ولادة آدمها هناك في أقاصي ليلها الصامت وحده يشهد طلوعه نجما يضيئ عتمة أمنياتها التي تقضّ نومها وتحبسها في الرهاب ونقص الشهيّة لتغوص في أسئلة جارحة عن ضرورة الحياة حين نكفّ عن الاستمتاع بها"رهيب...أن ترغم على الحياة"ص42 بعد أن واعدتها الحياة ذات حلم يبدو انّ التزاماتٍ كثيرةً حالت دون تحقيق الإنعتاق الذي كان سيحرّرها من مذاق الخطيئة يكفّر عنها البشر من أجيال لا متناهية غير أنّهم من قلة معرفتهم يتخبطون في مصيدة من خيوط التوهان والضَلال لذلك في "أزيحُ رداء الشمس" تأتي العناوين تَترى كأنما تطلب الصفح عن ذنب لم يُقترف:غفرانك – وشاح - مدد -أوّل مراسيم الدفن سؤال - لتقول إنّ الحياة لاقيمة لها إذ تعاش دون حقيقتنا لكنّ وضعها هي الأنثى التي تعوّدت على العيش خلف الأبواب والستائر لا تقدر على دفع الثمن مع أنّ"ألفة المتغيّرات تكوّن أنفسنا من جديد"ولأنّ الواقع الخاذل أقل بكثير من حلمها وطموحاتها المشروعة فهي مثل جميع النساء اللائي تعودن ألاّ يتحملن مسؤولية أفعالهن فيَرضين بما جهّزه المجتمع،لا تخوض في أيّ رحلةٍ غير العزلة والصمت. إنّ الرسائل هي عودة إلى طرح الأسئلة الشائكة التي ظننا لوقت أنّ بعض المحاولات التنويرية قد بثّت فيها ورجّت نظرةً إقصائيّة بناها التقوقع والظلم لتخرج بالمرأة إلى أن تكون ذاتا مكمّلة لنصف آدم الذي ضيّعه في رحلة بنائه وظلمه؛ فإذاهو يجعل الحياة نصف حياة أو نصف مقصّ لا يقطع الألم والوحدة التي تسير إليها الإنسانيّة من آلا ف القرون فتتكرّس عبر الجاهز من المفاهيم التي أحسب آسيا حاولت نقرها بكلّ هدوء الأنثى ووعيها الذي منح للحياة السكينة منذ أنكيدو المتوحّش يذرع وحيداغابات الأرض وأحراشها.