كان قلقي يبدأ مع هبوط الليل فقد بدت لي باريس في تباين عتمتها وأضوائها أصدق من تلك الأيام التي يغشاها الضباب حتى يتساءل المرء إن كان الجو نهارا فعلا، ويشعر باللون الرمادي يكتسحه، اللون الرمادي الذي يكتسح باريس لا يجب أن نصدقه حتى الأخير فهو أكذوبة جماعات الطقسيين ومشغلي أجهزة التدفئة وعاشقي المظلات الباريسية والصوف والكشمير، اللون الرمادي هذا هو مجرد فقرة محزنة، جمل باكية ونحيب بطلة من بطلات باتريك موديانو، إن المحط الذي تضع فيه قلبك وتنسى فيتسني لك الاستمتاع بتسكعك في سفرك نحو روحك، هذا المحط لا يكون إلا في الدائرة الواحد والعشرين لأن قبلها في التاسعة عشرة وفي العشرين يوجد مقبرة الأب لاشيز (la chais pére) وبيل فيل belle ville والعمالة الكوسموبوليتانية التي يكرهها ساركوزي لا بلسانه بل تحت طيات رأسه المحشو بشرائح البطاطا الأمريكية كما يقول عنه بعض الفرنسيين محط القلب إذن هو الدائرة 21 حيث لا من يزعج، ولا يهذر على أذنك أطنانا من /ت أن تي TNT الكلمات التي لا تفهمها ولا من يدوسك بعجلات عينيه ذات صباح عربي دامس، هو ترمينال فسحة ودهشة ولقاء بالداخل كي تعيد الفوضى إلى مكانها والمكان إلى صورته الناصعة والصورة الناصعة هنا في هذي المدينة لا تتبدل بتبدل الرؤساء والحكومات ومطارق الوقت·· كل شيء احتضنته ضمته إلى حنانها، ثم قبلا إلى نظامها، ثم قبلا إلى أناقتها، حسن في العرض وختام محكم التهذيب في استقبالها، انسى، انسى منغصات الطابور في مطار شارل ديغول، انسى قلق الحقائب وإجراءات أجهزة السكانير وانسى ربع التفاصيل التي قد تلقي بك في الخوف ومقدمة باتريك موديانو، فالنفس الأول عند وقوفك لأخذ تاكسي وهنا لا توجد أية أسطورة ولا معجزة ولا دعاء بالعواقب، العواقب سليمة والطاكسي نظيف أنيق كل الطاكسيات في باريس هي /ليموزين/ وكلها برجوازية وكلها نظيفة وكلها مختلفة عن زبالة بعض الدول العربية، ثم عن الفنادق فلا تحكي، الفنادق الصغيرة /الكوكيت/ تصل إليها من شوارع بالغة التزفيت، الترقيمات على هذه الشوارع موصلة إلى الدرب السريع، درب الفرح، درب ارنست هيمنغواي·· لها أصوات ولها روائح ولها حفلة أدب مشوي ولها عطر يبقي المكان في الذاكرة فلا يتنحى ولها طزاجة حلويات ترغب في الحب وفي الافتراس ولها مطاعم، إن الأكل هنا يجيء من مفهوم، ليس هو فقط حاصل الغريزة وإرادة الطبيعة ف Restaurants هي الوجبات التي ترمم أو تجدد، اختراع كوني، صحي، علمي، ثقافي قدمه بولانجيه للناس /عام1765/، حساء مكون من المرقة واللحم والحبوب يمنح القوة للنساء أثناء فترات حملهن أو للرجال بعد التدريبات البدنية الشاقة، اختراع مخترع لم يكن ينضم إلى رقابة أو حزب، عاقبوه لأنه قدم طبقا من قدم الخروف بالصلصة البيضاء لكنهم أنصفوه هؤلاء الفرنسيين الذين يعشقون مرافعات الفكر والبطن لأنه لم يطهو اللحم في الصلصة وليس ذلك خيانة، محل بولانجيه يفضله زوار كثر عندما يفدون اليوم شارع اللوفر، هذا العجب المعجب لا يوجد في جنس آخر فن تحويل براعة أهالي باريس المشغولة بفرح التذوق، إن تلك الحلوى الصغيرة المسماة petites madeleines بيتيت مادلين/ أو /المادلين الصغيرة/ وقد اخترعها مارسيل بروست هي عبارة عن كعكة على شكل صدفة بحرية، كذكرى لأشياء مضت، فإن رائحتها فقط تسترجع إلى أذهاننا ذكريات الطفولة الدفينة وهي حكاية تستحق جوق الشرف الحضاري والتاريخي ووحدها ومثيلاتها يشكلن هذا الذوق المخملي الباريسي في الطبق وفي الملبس، في الفن ونحته، في الأدب ومفاهيمه، إن الفرنسي سيستاء منك إن حدثته عن مقهى وفقط، وعن ستاربوكس كافيه، وعن الكوستاكافيه فهي كلها عنده مقاه وفقط، بل حتى في /المالونغو/ وهي سلسلة عالمية معروفة يظل المزاج أقل من لازم عندما تحدث فرنسيا عن هذه الإلهة السوداء، المقهى في هذي البلاد هي الوطن الكلاسيكي للمسرح والفرجة ولتقديم نبيذ المشمش والكرز والتوت، جدرانه تعكس ضوء الشموع، وعلى السقف رهافة الكريستال وفي وسطه روح إنسانية مدهونة بالسكر المبلول وهي تطقطق أو توشوش أو تهمس همسها الخفي الذي لا يدرك وعليه ليس المقهى هنا ملتقى الثرثارين الأغبياء الذين يخلطون الحرف بالعبارات ويلوون الأعناق والظهور بسمج رخيص وحقارة باطن، شأن الحياة المقهوية هنا، شأن الحياة كلها بنمطيها الإلتزامي، المنضبط، الأيديولوجي أو البوهيمي المطلق السراح، الإباحي، المبتذل، كل شيء تجده في الأدب، في حركية كتابة باريسية يومية، سريعة الجرأة، سريعة اللحاق حتى، حتى بلهاث الناس وأنفاسهم وهم يتدفقون على عربات الميترو، محطة، محطة سان لازار، سان سولبيس، سان جفييف، سان جاك، شاتلي، لي مولينو، لافيليت، بيل فيل، نشاط ميترونومي متدفق، متوتر حتى في الفرح وأمسيات السبت، وكل ذرة هنا، كل خط أبيض وأحمر وأزرق مكتوب هنا بزينة، بإشارة، برسم، بفتنة، الإعلانات ترشدك إلى مواعيدك اللاحقة، عروض المسرح والسينما تنسيك الذي بدأته أو خمنته أو حلمت بإطلالته عليك، هذا الإيقاع /المترونومي/ يوتر أحيانا كما قلت، لأنه لا يوجد فراغ لم يشغل ولا أجندة مهملة في يومها ولا يوم يهمل في ساعاته ودقائقه بل عن ثوانيه التي تفتح فيها صفحات المجلات والجرائد وهي تتصدر /الشو Schaw عن ساركو وعائلته، عن فرانسو بايرو، عن فيليب دوفيلييه وعن دوفيلبان وعن سيغولين روايال، زخم قديم يعرف الفرنسيون تجديده في الحساء الجديد كما هو الحديث المستمر ثقافيا عن برنارد هنري ليفي وعن المغنية ديامز وعن المغني جاك فيرات وكذلك عن جين بيركين وغينسبرغ والمدرب دومينيك واللاعب كريم بن زيمة وزميله سمير ناصري، لا توجد مسافة ولا منطقة رمادية ولا ظلام سياسي ربما إلا عند العارفين من انتلجانسيا المدينة وعمدة بلدتها كما عند صحافييها النقديين الذين يتأهبون كل ليلة لجدل يتوسط الشوكة والسكين، عدا ذلك فلا رماد باتريك موديانو ولا جحيم هنري ميلر ولا حثالات العالم العربي، الحثالات موجودون في كل مكان ولا جنس لهم ولا وطنية لهم ولا ذوق لهم ولا أدب، فقط إنهم الفرنسيين -من غير الحثالات- يعلقون على كل شيء، يهتمون بكل لحظة ولا يخلعون جاكتتهم في حفلات الكوكتيل، هنا يعشق المرفهون ساعات الرولكس والراما والكارتييه كما يذهبون إلى معارض الكتب بانحناءة وتقدير للسيد الكتاب حيث لا فقير ولا غني أمامه، الكتاب هنا نزوة إنسانية غير عابرة، إن معرض باريس الثلاثين قائم على هذا الحسن الباهر في الاستضافة، صخب محبب، لا ضوضاء ولا كلام يستثمر في أحلام الغير ولا إرادة تنام حتى الساعة السابعة مساء بالتوقيت العربي، إنك تستطيع أن تملك لحظتك هنا، فتلتقي ببول أوستر أو تحي سلمان رشدي أو تبتسم لأنريكي فيلاماتاس أو لا تأبه تماما بمرور علاء الأسواني قدامك، عفوية تشبع واستيهام محدود وابتهاج عين في مدينة الفن وحانة العلوم ونادي المانغا كما في النادي الشباني والرواق الروسي وقاعة جوليان غراك، ندوات أنس واهداءات وقراءات يزدهي خلالها الزائر كما ازدهت روسيا وهي ترتل النشيد الموسكوفي وتنشد ملاحم الكريملين والسانت بيطرسبج ووقائع عن مدينة كييف في صمودها وصمود دوستويفسكي وشولوخوف وسولجنستين وكل ذلك حدث على باب فرساي· بالمرة لا ملل هناك، هنا، مدينة مجنونة، هائجة، ليس بها هواء طائش كما يقولون وليس هنالك من حاجة كيما نستعيد أغنية فيروز /يا هوى يا أهل الهوى خذني على بلادي/ أزلية فيما تمنحه لك من شعور ومن اشتهاءات ومن غلمة ولست بحاجة إلى هواء بلادك فهواؤها هو المازوت والهرج والمرج· ستظل باريس شهية البلع والابتلاع، لا يختفي عنك الحنين إليها إلى آدابها الرفيعات، إلى مكتباتها في السان جرمان دي بري وفي السان ميشال، إلى ستراتها ووشاحاتها إلى جسرها القديم وجسر الكونكورد إلى ضفتها اليسرى بروعة الحي اللاتيني وما اختزنه من الروايات، الروايات الطوال، وثمة معها حنين إلى الأصدقاء ولا شيء معهم غير موسيقة آتية من الداخل كطنين البلياردو الإلكتروني، إحدى تلك المقطوعات التي تهدهدك لتجعل وحدتك عذبة تقريبا كما قالت بطلة باتريك موديانو·