في الوقت الذي يتجه فيه العالم على المستوى السياسي والاقتصادي نحو التفتح على تكتلات وتحالفات إقليمية لتعزيز مكانته وهيمنته· على النقيض من ذلك، يبدو أن ذات العالم في بعده الإنساني بات يتجه نحو الانغلاق والإغراق في المحلية، بل يتجه في كثير من مناطق العالم نحو رفض الآخر، الأمر الذي يتسبب في نشوء بؤر توتر، وإلا ما الذي يفسر الاتجاه الانفصالي المتصاعد في بلجيكا· تلك المملكة التي اشتهرت بعشقها للبطاطا المقلية وبالنكت التي يطلقها الفرنسيون حول البلجيكيين، في طريقها لتصبح الحدث السياسي الأوروبي، حيث قرون بعد اكتمال الوحدة وإقرار نظام الفيدراليات المعترف بخصوصية كل منطقة وتميزها الثقافي واللغوي، عاد الحديث عن الانفصال· هذا الحديث الذي قاده عدد من نواب البرلمان البلجيكي المطالبين لأول مرة بصريح العبارة بالإنفصال عن المملكة وإعلان استقلال مقاطعة الفلامند· مع العلم أن هذا المطلب ليس وليد الساعة وليس رغبة منعزلة لعدد من السياسيين الراغبين في إثارة ضجة سياسية، الواقع البلجيكي يؤكد تجذر هذا المطلب لدى عامة الشعب، التي ترى بعين الغضب تصاعد هيمنة الفرانكوفونيين على البلاد· وقد سبق للبرلمان المحلي في منطقة الفلاموند أن منع استعمال اللغة الفرنسية في الإدارات العمومية، الأمر الذي لقي استحسان السكان الناطقين بهذه اللغة، في حين ندد المتحدثون بالفرنسية والقاطنون بمنطقة فلاموند بهذا القرار، لحد اعتباره تعسفيا وعنصريا· والحديث عن مملكة بلجيكا يجرنا للحديث عن التنظيم السياسي والإثني لهذه المملكة التي لا يتجاوز عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، مقسمين على ثلاث إثنيات في ثلاث مناطق، مع التباين في التوزيع السكاني بين هذه المناطق المشكلة للفيديراليات، ويتعلق الأمر بالفرنكوفونيين، الوالونيين والفلاموند· أما اللغات المتحدثة في بلجيكا فهي على حسب الإثنية، الفرنسية، الألمانية والهولندية، مع العلم أنها المرة الأولى التي يقوم بها نواب البرلمان المركزي للمملكة بالمطالبة الرسمية بالانفصال، حيث أنهم لم يمانعوا في ترديد النشيد الوطني لمنطقة الفلاموند مع رفع الأعلام المحلية، الأمر الذي جعل المراقبين الدوليين يؤكدون خطورة هذا المطلب ليس فقط على بلجيكا وإنما باقي الدول الأوروبية التي تتشكل في معظمها من أقليات سعت المفاهيم السياسية الجديدة لصهرها في ما يعرف بالمواطنة· هذه المواطنة التي لم تعد كافية فيما يبدو وبالنظر لارتفاع عدد الحركات الانفصالية والمطالبة باحترام الخصوصيات المحلية، مثلما يحدث مع صراع الباسك في إسبانيا، وما حدث في إيرلندا مع المملكة البريطانية، فهل يمتد المد المحلي لباقي أوروبا أم تنجح بلجيكا في صنع الاستثناء وتجاوز هذه الأزمة؟