حينما يزور أي رئيس أمريكي دولة عربية فهذا يعني اعترافا منه بقوة هذه الدولة ومكانتها وأن لها ثقلها السياسي والاقتصادي وقدرتها الفريدة على توجيه الأحداث في العالم، وإذا كانت هذه الزيارة ترتبط أيضا بقوة الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإنها تربط أيضا بقدرات الزائر ورؤيته وسياسته وتاريخه، وفي هذه الزيارة ربما كانت مهمة الرئيس أوباما لمصر بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية لمخاطبة الدول العربية والإسلامية هي الأصعب في مسلسل زيارات الرؤساء الأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية، فالأجواء التي تمت فيها هذه الزيارة تخيم عليها تداعيات مؤلمة وباهظة التكلفة لسياسات يتحمل الرئيس السابق بوش ومساعده في إدارته المسؤولية الكاملة، وربما يدرك الرئيس الجديد ''أوباما'' وفريق إدارته أنه اليوم يخطو على أرض، تجسدت فيها أخطاء سابقة، وهي طبعا أخطاء كبرى طوال السنوات التي قضاها سابقه في البيت الأبيض، فلقد أشعل النيران في كل جوانبها وأحدث نزيفا بشريا بين سكانها لم يزل ينزف إلى اليوم، فهناك ضحايا كل يوم في العراق وفلسطين والسودان ولبنان وفي غيرها وحتى أيام أوباما قد بدأت تبشر بنزيف آخر أكبر وأخطر في منطقة الخليج بعد أن حنث بكل الوعود التي قطعها في مطلع عهده بقيام دولة فلسطينية لشعب استمرت معاناته نحو خمسة وستين عاما وفشل مشروع ''خريطة الطريق'' الذي طرحته الولاياتالمتحدةالأمريكية وقدمت أسوأ نموذج لإدارة كارثة بحجم تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عام 1002 وفتحت سياساتها الباب واسعا أمام صراعات وحروب إقليمية بين الشعوب والأديان وكرست المخاوف من النظام العالمي الذي قادته وقادت منطقة الشرق الأوسط إلى حروب عبثية وتدخلات غير مبررة في شؤون المنطقة العربية الداخلية، واقتحمت خصوصيات الشعوب الثقافية والسياسية، فأحدثت فيها اضطرابا غير مسبوق، ولقد غادر الرئيس السابق للولايات المتحدةالأمريكية البيت الأبيض تاركا بلاده عازمة بأن لا تنسى له ما اقترفه في حق الشعب الأمريكي من انتهاك للدستور والكذب المتعمد على الشعب الأمريكي وتسببه في فقد الولاياتالمتحدة احتراما كبيرا لها في العالم وفي مقتل آلاف الجنود الأمريكيين ليهبط أرضا تسكنها شعوب لن تتسامح مع خطاياه الماثلة في كل دولة من الدول التي استعمرها· ومع كل ذلك فأي دولة في العالم عندما تستقبل رئيسا أمريكيا، فليس بوسعها إلا أن تدرك حقيقة أنه رئيس الدولة الأقوى والأكبر والأغنى في عالم اليوم، وهي حقيقة تتطلب منا البحث في ركام السياسة الأمريكية عن بارقة أمل في إمكان العمل معا من أجل السلام وتحقيق الإستقرار وحماية مصالح الشعوب العربية وفي المقدمة منها حقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة واستعادة الحقوق الضائعة للشعب العراقي، وربما كانت زيارة بوش الأخيرة للمنطقة تلك الزيارة التي رماه فيها الصحافي العراقي منتظر الزيدي بحذائه قبل أن تطوى صفحته السياسية اعترافا بأخطائه الفادحة، وإذا لم يكن يدرك هذه الحقيقة، فلا بد أنه سوف يسمع ذلك كثيرا في الشرق الأوسط من طرف الفلسطينيين وما خلفه حكمه وهو رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، هذه الدولة التي أغرتها القوة، فاندفعت وراء طموحات واهمة وأصمت أذنيها عن أن تسمع آراء حكماء العرب، فعبر مراحل العلاقات العربية الأمريكية لم يكن هناك اتفاق كامل أو اختلاف كامل بشأن الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، ولكن مع سياسات الرئيس الأمريكي السابق طرأ اختلاف من نوع جديد هو اختلاف المنهج خاصة حينما أعلن بوش عبارته الشهيرة ''من ليس معنا فهو ضدنا''، وهو منهج يختزل الدنيا في موقفين إثنين فقط لا ثالث لهما، وهو أمر يتنافى تماما مع أي فكر رشيد، ولا يتفق مع التراث الإنساني في السياسة وفي غيرها، ولم تقبل الدول العربية هذا المنهج جملة وتفصيلا، فليست هي التي تقبل بسياسات تراها خاطئة عملا بذلك المنهج العقيم ولم تتردد في نقد السياسة الأمريكية في مواطن الخطأ، بالرغم من الفتور الذي جاء به هذا النقد ليصيب العلاقات بين الدول العربية والولاياتالمتحدةالأمريكية وربما قبلت بعض الدول الأخرى غير العربية إدارة بوش لكن الدول العربية لم تقبل به يوما حماية لدور الشعوب العربية الإقليمي ومكانتها والاعتزاز بمواقعها المبنية على مصلحتها· لقد حذر كثيرا من رؤساء الدول العربية الإدارة الأمريكية من خطورة ذلك المنهج، وتأكيدهم أن الشعب الأمريكي لن يتحمل كثيرا التبعات التي يأتي بها منهج السياسة الأمريكية في مواجهة ما تسميه بالإرهاب، وربما فرضت التطورات التي تلاحقت منذ الفشل في غزو العراق وتداعيات حرب الإرهاب على علاقات الشرق والغرب شيئا من الرغبة في التراجع والتصحيح والعودة إلى جادة الصواب، وهو ما ظهر واضحا في الأشهر القليلة قبل نهاية سلطة بوش، ولعل المراجعات في الإدارة الأمريكية تطال الآن وضع القضية الفلسطينية من منطق الرؤية العربية التي ترى هذه القضية مفتاح مستقبل التسوية والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط· هذا وأن كل المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدةالأمريكية يرون أن القضية الفلسطينية سوف تنتهي بإعادة ترتيب المنطقة بعد بناء العراق بالشكل الذي يريدونه ويظنون أن الطريق إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي يمر بالعراق بدلا من الطريق الطبيعي الذي لا بديل عنه وهو المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية في إطار الشرعية الدولية وصولا إلى حل سلمي عادل وحقيقي للقضية الفلسطينية· وربما أن الرئيس جورج بوش في الفترة الأخيرة من حكمه قد راجع موقفه من القضية الفلسطينية وأهميتها لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط· ولكن هذا التغيير في السياسة الأمريكية ما زال ضعيفا في عهد الرئيس الحالي أوباما، ولكنه قد يكون في الاتجاه الصحيح، فالإدارة الأمريكية التي ظلت مصممة على أن تتلقى الأوامر ولا تسمع لأي صوت مهما يكن شأنه، تبدو الآن أكثر رغبة في أن تستمع وأن تحاور اعترافا بأخطاء المنهج السابق· وربما كما قلت كانت زيارة بوش الأخيرة للشرق الأوسط فرصة فريدة لم تتح من قبل لأن يسمع ويراجع في هدوء أهمية الحوار مع حكماء العرب، وأن يسمع أصواتا غير تلك التي استمع إليها في مكتبه على بعد آلاف الأميال من المنطقة التي تستوعب الجزء الأكبر من تحركاته الخارجية، وربما كان فات الوقت على الرئيس بوش وإدارته أن يستفيد كثيرا مما سوف يستمع إليه في المنطقة، فقد داهمه الوقت وهو ما زال يعاني أزمة السقوط في المستنقعات ولكن كان المهم أن يستخلص من تجاربه دروسا ربما تفيد من يأتي بعده لتصحيح مسيرة الأخطاء التي وقعت فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية· وربما كان غاية ما يحققه بوش في جولته بشأن القضية الفلسطينية هو إعادة ثقة العرب بالولاياتالمتحدةالأمريكية كوسيط للسلام في المنطقة بعد أن تردت تلك الثقة في ضوء الرغبة العربية الجادة في السلام والمراوغة الإسرائيلية بتأييد أمريكي كامل· وكان بوش قد صرح قبل زيارته الأخيرة للعراق أن زيارته سيكون هدفها تشجيع السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين واحتواء الطموحات العدوانية لإيران، فإن العرب جميعا لديهم مخاوف من النشاط النووي الإيراني ولكن تلك المخاوف لن تدفعهم إلى حدود التطابق مع الموقف الأمريكي وسياساته نحو إيران، ولا بد أن يدرك الرئيس الأمريكي هذه الحقيقة قبل أن يحاول ممارسة أي ضغوط في المنطقة، فمن ناحية يبدو أن قدرته على ممارسة الضغوط تتراجع كثيرا، حيث انطلق قطار انتخابات الرئاسة الأمريكية فضلا عن أن الأخطاء المتعددة له في المنطقة تقوض نجاحاته في الحصول على ما يريد من العرب تجاه إيران، ومن ناحية أخرى، فإن المخاوف العربية لها أسبابها ومبرراتها التي تختلف تماما عما يشعر به الأمريكيون والإسرائيليون على السواء وهم يشاهدون الرئيس الأمريكي جورج بوش يضرب في آخر أيام حكمه بحذاء على الوجه من طرف صحافي عراقي، فهل تكون هذه الحادثة التاريخية في السجل الأمريكي عبرة للرؤساء الذين يأتون بعده·