لأكثر من ثلاثة عقود، ظل السينمائي التونسي صاحب الحضور المتميز، الفاضل الجزيري يوقع أعماله بهدوء، صانعا تميزه ونظرته الدقيقة لمهمة المثقف عامة ورجل الفن السابع بشكل خاص، ليستقي دائما الأهم بل الأصدم أحيانا، ولكن بهدوء نادر، التقيناه على هامش عرضه لفيلمه الجديد ''ثلاثون'' الذي أخرجه وشارك في تأليفه رفقة الكاتبة عروسية النلوتي في الدورة الثالثة للمهرجان الدولي للفيلم العربي، تناول عمله الجديد، ولكنه أماط اللثام عن كثير من القضايا الهامة ذات الصلة بالراهن الثقافي التونسي والعربي على السواء· لعل السؤال الأول المتبادر إلى ذهن المشاهد هو ما الجامع بين علمين كل منهما صاحب مسار مختلف، الأول هو الطاهر الحداد، أما الثاني فهو الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، هل يمكن القول إنهما أبرز من نادى بتونسالجديدة؟ يمكن أن نقول كل ذلك، يحيلني سؤالك على الهاجس الأساس الذي دفع إلى ولادة مشروع ''ثلاثون''، ورغم الاختلاف الظاهر بين الحداد وبورقيبة في التفكير وفي المسار الثقافي والسياسي، إلا أنهما يلتقيان في النهاية عند همّ التغيير. الحداد يمثل هاجس الحضارة والتحديث، ولكنه حداثي ينتمي إلى تيار مراجعة الفكر الديني من منظور اجتماعي مشروع تنظيم المجتمع، وهو أيضا خريج الزيتونة،بينما بورقيبة خريج الصادقية ودرس في فرنسا، ولذلك كان صاحب مشروع دولة حديثة، الحداد هو من مؤسسي نقابة الشغالين، حركة الحداثة في تونس منهم الحداد، بورقيبة ومشروع بناء الدولة. وما حضور الشابي الشاعر في لعبة المصلح الاجتماعي رجل الدين ''الطاهر الحداد'' و ''بورقيبة'' المناضل السياسي صاحب مشروع الدولة، ومن بعده الكاتب الكبير والمسرحي علي الدوعاجي؟ الشابي لم يكن منعزلا عن هذه السياقات النضالية التغييرية أو فيما يسمى بالقوى الطلائعية، وإلى جانب صداقته مع رواد الحركة الثقافية والسياسية آنذاك هو آلة الخيال إن صح التعبير، اختلف اشتغاله عن هؤلاء لأنه شاعر ولكن همّ التجديد كان دائما هاجسه الكبير بدليل كتابه ''الخيال الشعري عند العرب''، ومن الناحية الأدبية قام بمجهود كبير لأنه أول من بحث الأمر أعني الخيال الشعري من وجهة نظر مختلفة وصادمة· بالنسبة للفنان علي الدوعاجي فقد كان العلامة البارزة في تونس من حيث النشاط الثقافي، وهو أول من اعتبر اللغة المحكية أي الدارجة الجسر الأقوى للتواصل السياسي القوي والفعال مع الناس، وقد ألقت الفكرة بظلالها على عدد من الساسة في تونس، في مقدمتهم الحبيب بورقيبة الذي اعتمد خطى الدوعاجي في مخاطبة الجماهير. لكنك على ما يبدو أحببت الشابي، واشتغلت عليه أكثر كما لو أنه بطلك الأثير في العمل، ما قولك؟ يمكن قول ذلك إلى حد ما، الفارق الأساسي بين الشاعر من جهة ورجل السياسة ورجل الدين في الجهة الأخرى يختلف جذريا، لأن الشاعر صاحب موقف من الحياة من أجل الحياة، ولما كان الشابي شاعرا، فإنه ظهر ضعيفا في العمل السينمائي على مستوى المواقف السياسية والحنكة النضالية لأنه استسلم لقوة الواقع وشدته وشراسته، مما جعله ييأس أكثر من مرة، وعكسه تماما الحبيب بورقيبة فقد بدا قويا من حيث هو رجل سياسي محنك إلى درجة ''مصافحة الشيطان والحديث معه ثم رجمه'' كما جاء على لسانه في الفيلم. على مستوى آخر طغا حضور الطاهر الحداد على مشاهد الفيلم، هل هو الوفاء للقضية الفكرية التي ناضل من أجلها الرجل، وهل وجد هذا الرجل مكانة خاصة لديك؟ لا يمكن لعمل مماثل إلا أن ينصف الطاهر الحداد صاحب الشخصية الإشكالية بشكل رهيب، ثراء شخصيته على المستوى المعرفي الأدبي والديني يضاهية ذلك الثراء الذي تميز به في مواقفه السياسية ونضالاته التي صنعت منه رمزا تونسيا غير مستنسخ، وكذلك لحضوره القوي والمتواتر في مشاهد الفيلم، مبررات عدة ربما يكفي مساره ليلخصها دون أن ننسى أنه صاحب مشروع فكري فلسفي، ما زالت تونس تقرأ تفاصيله وتسترشد به إلى يوم الناس هذا. شاع بكثرة حضور صور وأصداء السيرة الذاتية للمخرجين في أعمالهم السينمائية في الفترة الأخيرة، إلى أي حد يمكن أن نقرأ ظلالا من سيرتك الذاتية في ''ثلاثون''؟ لا يكاد يخلو عمل فني من أصداء السيرة الذاتية بما في ذلك الأعمال الأدبية، ولا أجد حرجا أبدا في ذلك، بل بالعكس أجد الأمر طبيعيا جدا، والأمر مفتوح لكل النقاد قصد مناقشته، لم أقدم في النهاية شريطا وثائقيا تأريخيا، المهم بالنسبة لي هو أن أقدم للمشاهد حيرة ما تدفعه إلى التساؤل والمراجعة، مراجعة الواقع ومساءلة المستقبل، هذه هي وظيفتي، وظيفة الفن عموما. رغم أن العمل يأخذ بعده السياسي أكثر من أي بعد آخر إلا أنك في جمعك للثلاثي: الحداد، الدوعاجي، الشابي كنت تحمل رهان المثقف، هل كنت تريد أن تنفض الغبار عن الدور الريادي للمثقف الذي يخطف السياسي منه الضوء في الوطن العربي؟ في المقام الأول أنا أشتغل على إعادة الاعتبار لهؤلاء الكبار من الرموز الثقافية، أردت التأكيد على أن دور الفنان أكبر مما ينظر إليه على كافة الأصعدة ومنها السياسي، لعل الرسالة الأكبر ها هنا هي أن هؤلاء الرموز قدموا في مرحلة شبابهم لنقول للأجيال الجديدة اليوم أنهم مطالبون بالانخراط الجاد في قضاياهم على غرار نموذج الشابي والدوعاجي والحداد وبورقيبة على السواء، هذا الرهان مقدم لكل الشباب خاصة في الوطن العربي والمغاربي الذي ما زال يعيش قضايا واحدة. ''ثلاثون'' يقدم للمشاهد أحرج المراحل السياسية التي عرفتها تونس، ولكنك كنت متلطفا في كثير من المحطات السياسية، ومثال ذلك الانتقال من مرحلة البايات إلى الدولة الجديدة قدم بشكل مسالم جدا وغير ذلك من المحطات، ما خلفيات هذا اللطف الإبداعي أو الرقابة الذاتية؟ الشخصية التونسية ملاطفة بطبعها في الغالب، ولكن دعني أقول لك أنني أقدم فنا وإبداعا، لا أحتكم في ذلك إلى الحقائق كما نقرأ تفاصيلها بشكل حرفي، اللطف لا يعني غياب الحزم في تقديم الحقيقة، ولكن أن أتحكم في الطريقة التي أقدم بها عنفا مثلا، لم أكن أصور بشكل توثيقي للمرحلة بقدر ما كنت أثير نقاشا فلسفيا لفهم المرحلة في سياقاتها الفكرية والسياسية، ولذلك النقاش بهذه الصورة يتطلب مرونة في مقاربة القضايا للاستفادة في النهاية وليس للتهويل، النقاش بشكل سلمي ضرورة للذهاب نحو المستقبل. الاشتغال على هذه الأسماء لأول مرة، هل أنت رائد هذا التوجه في تونس؟ تنوع المشروع السينمائي بحثا عن جودة تقنيات التعبير قصد إضافة شيء على المستوى الفني والجمالي، نحاول خلق فضاء للنقاش، نحن في مرحلة تكاد تتشابه بين الجزائروتونس، ولذلك نعمل على التأسيس لمرحلة جدية وجديدة، المشروع السينمائي اليوم مطالب بأن يتحسن على كافة المستويات التقنية والجمالية قصد تقديم إضافة ولو متواضعة لراهننا العربي، هذا هو المطلوب للذهاب نحو الأمام خاصة فيما يتعلق بدفع الشباب نحو رفع هذه الرهانات. ألا ترى أنّ واقعنا اليوم يكاد لا يختلف عن واقع فترة الثلاثينات، على مستوى هيمنة الكثير من الرجعيات، هل يأتي ''ثلاثون'' ليقول ما أشبه الليلة بالبارحة، وأنه يجب أن نحارب الرجعية دائما؟ ''ثلاثون'' صرخة ضد الرجعية والسلفية المتخلفة وكلّ أشكال التطرّف الفكريّ، الاشتغال على التاريخ هو مقاربة للراهن، دعني أقول إن مقاومة الرجعية يجب أن تتواصل قصد إغلاق منافذ التخلف في مجتمعاتنا الناهضة، هذه هي مهمة الفنان في النهاية ودوره الذي يجب أن يضطلع به على أحسن ما يكون، الوضع العام نفسه من الناحية السياسية، الجبروت الغربي موجود ومتسلط علينا، أهالينا يعيشون نفس المشاكل، الدول القوية ما زالت تعمل على تجويعنا، سلطة القرار اليوم محلية ولكن محاصرة . كيف كان عرض الفيلم في تونس، وهل تعرضت للرقابة؟ اُستقبل بشكل حميمي على كافة المستويات فنيا ونقديا وإعلاميا، لقد احتفى الجمهور التونسي به بشكل رائع وحتى السلطة قدمت لي تعاونا مهما، بالنسبة للرقابة لا يمكن أن نقول إنها كانت قاسية. هل دعوت النظام التونسي في مشهد احتفال الباي بالمولد النبوي لما طالبه نخبة من الساسة بفك الخناق عن الأسماء الكبيرة المنفية؟ الدعوة إلى رفض القمع أزلية، لا يمكن أن يتخلى عنها المبدع الفنان مباشرة، مهمة الفنان في مجتمعاتنا يجب أن يكون فيها أكثر من الذكاء، عاش من عرف قدره و وقف دونه، نعرف جبروت السلطة، يجب أن تعامل سلطتنا بذكاء وبمرونة. لماذا هذا العنوان ''ثلاثون''؟ هو التاريخ والإحالة على الأقلية، الأقلية التي تغير مجرى التاريخ، والرهان دائما عليها.