قد لا توحي كلمة الحصار في أذهان الكثيرين بأي معنى محدد، على اعتبار أنها مجرد مفهوم يصعب تصور إسقاط له على أرض الواقع، اللهم إلا من كان في ساحة المعركة وحتى في هذه الحالة يكاد يقتصر الأمر على المحاربين، أما عن السجن فإنه يرتبط في الأذهان على أنه العقاب الأمثل لكل مخالف للقانون، حيث تتم مصادرة حريته في التنقل ·· كلها معاني نسعى لتصورها دون تجربة، لتبقى مجرد مفاهيم وتعريفات لا تقترب مما يعانيه أكثر من مليون ونصف مليون غزّي محاصر في مساحة مقفلة من كل النواحي عدا السماء ·· فقد فرض على الغزّيين حصار ظالم يصعب تلمس تأثيراته من خلال سماع نشرات الأخبار وتقارير المراسلين الإعلاميين، فمن يسمع ليس كمن يشاهد بأم عينيه ·· وقد كنا شاهدين على معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المحاصر، فهي لا تختلف عن أبشع الكوارث على مر التاريخ الانساني ·· والحق أنها قد تكون الأبشع، من منطلق أن عالم اليوم المتحضر إبتدع من القوانين ما يفترض فيها ضمان حماية الانسان وعدم السماح بتكرار مثل هذه المأسي ·· نقول كنا شاهدين على المعاناة وحري بنا أن نشهد عن الصمود والإيمان بمشروعية القضية ·· ففي الوقت الذي تجمع فيه تقارير المنظمات الدولية الإنسانية المشتغلة والمهتمة بالصحة والطفل والمرأة والبيئة ·· وغيرها من المجالات الحيوية أن الوضع الإنساني في قطاع غزة لم يعد متدهورا، بل جاوز هذه المرحلة بأشواط ليصبح الوضع المعيش كارثيا بكل مقاييس الكارثة الإنسانية، يظل الغزّيون مصرين على الغربة في الحياة وتفويت فرصة الرضوخ والاستسلام لكل من أراد لهم الانكسار ·· والحال أن الزائر للقطاع المحاصر يكتشف معنى السجن، فالغزّيون يعيشون منذ ما يقارب أربع سنوات في سجن مقفل من كل النواحي عدا السماء، وإن كانت هي الأخرى تشكل خطرا بين الحين والآخر بفعل الإعتداءات الجوية الإسرائيلية· يواصل الغزّيون اقتناص فرص الحياة بالرغم من الغلق الكامل والشامل لكل المعابر التي تذكرهم بأنهم شعب مسجون، بفعل الغلق المحكم لكل المعابر الممتدة على طول الحدود مع الكيان الصهيوني· وللعلم، فإن عدد المعابر الخاضعة لسيطرة الدولة العبرية هي ستة: معبر المنطار، معبر بيت حانون أو المعروف بمعبر إيريز، معبر العودة، معبر الشجاعية، معبر كرم أبو سالم، معبر القرارة، وهي معابر محكمة الإغلاق، حيث لا يدخل ولا يخرج منها أي شيء ·· في حين أن المعبر الوحيد الذي يفترض أن يكون تحت سيطرة مشتركة بين الفلسطينيين ومصر هو معبر رفح البري، مع ضرورة الإشارة إلى أن معبر رفح خاضع لقانون يفرض حضور مراقبين أوروبيين لمراقبة حركة المرور، غير أن رحيل البعثة الأوروبية جعل الطرف المصري يقدم على غلق المعبر إلا أمام الحالات الإنسانية الشديدة الحساسية، وإن كانت الحكومة المصرية أقدمت في الفترة الأخيرة على التخفيف من وطأة هذا الحصار من خلال فتح المعبر أمام حركة الدخول والخروج ·· والجدير بالذكر أن معبر رفح مخصص لحركة الأشخاص بالدرجة الأولى، في حين أن المعابر الممتدة على طول الشريط الحدودي مع الكيان الصهيوني تخصص لدخول وخروج السلع والبضائع، الأمر الذي جعل من غلقها بمثابة حكم بالإعدام على الغزيين على نار هادئة، فلا بضاعة تدخل أو تخرج ·· والمثير للسخرية أن السلطات الإسرائيلية في زعمها الإستجابة للمطالب الدولية تسمح بمرور ما يقارب مائة نوع من السلع من ضمن قائمة ضرورية تتجاوز الألف سلعة، وما يفاقم من حجم المأساة الإنسانية أنه يتم السماح بعبور مواد من قبيل البسكويت في الوقت الذي تشهد فيه مستشفيات القطاع تراجعا في الأداء بسبب عدم توفر قطع غيار المعدات والأجهزة ·· ولعل القطاع الصحي هو من أكثر القطاعات المتضررة بفعل الحصار، حيث أن المساعادت المسموح لها بالعبور عبر معبر رفح البري أيا كان حجمها لا تسد الحاجة في ظل ارتفاع الحالات المرضية ·· والحال ينطبق على كل المجالات الحياتية، على اعتبار أن منع مرور المواد الأولية في كثير من الصناعات والمجالات عطل الحياة بالنسبة للكثيرين ·· نقول عطلها دون النجاح في إيقافها، فقد برع أهل غزة في ابتداع طرق بديلة للحياة، فبعدما قامت سلطات العدو بمنع مرور مواد البناء لجأ أهل غزة لاسترجاع حطام الدمار ليحولوه من جديد لمواد يمكن استعمالها، فمن الحطام يستخرج الحجر، الرمل والحديد وغير ذلك ·· وإن نجح العدو في غلق المعابر البرية، ضاعف الغزّيون نجاحهم من خلال خلق معابر نفقية تحت الأرض تقاوم الحصار الاقتصادي وتؤكد للعالم صمودهم· كان الاعتقاد السائد لدينا قبل دخول القطاع أن الأمراض المتعلقة بالمجاعة وقلة النظافة متفشية في القطاع، غير أن الصورة انعكست بمجرد معاينة المحلات التي كانت مليئة بمختلف المواد، الأكيد أنها لم تكن نتيجة للمساعدات الإنسانية الدولية التي تدخل القطاع بالقطارة، وإن كانت التقارير الدولية تؤكد على أن القطاع يعيش بنسبة 80 بالمئة من المساعدات، لكن لا يمكن لعاقل أن يصدق أن يعيش أكثر من مليون ونصف مليون على المساعدات، فالأنفاق العابرة للحدود باتت بمثابة الحل الأمثل للإستمرار في الحياة، حيث يتم تمرير مئات البضائع ·· في ميناء غزة الجميل كان لنا حديث مع أحد الشباب العامل في حفر الأنفاق، سنطلق عليه اسم أبوخالد: ''يفترض أن مهنتي هي الصيد على اعتبار أن والدي عمل بالصيد من قبل، غير أن الحصار البحري بات يمنعنا من الصيد، بعدما كانت مسافة الصيد المسموح لنا بها خلال فترة عمل والدي تصل لحوالي 180 كلم إنحصرت اليوم لتقتصر على حوالي 35 كلم، وهي مسافة يقل فيها السمك ·· لا يمكنني المكوث دون عمل لا بد من إعالة عائلتي، فأنا مسؤول عن العائلة الصغيرة والكبيرة وبيت أخي الشهيد، ولم أجد من فرص غير الحفر، فطاقاتي الجسدية تسمح لي بذلك كما أن ربحها لا بأس به ·· وبصراحة لا أخفي عليك أنني أشعر أنني أساهم في رفع الحصار عن أبناء شعبي'' ·· أما إذا حدثته عن خطورة مثل هذا العمل فيكون الجواب جاهزا: ''يا عمي في غزة كل الطرق تؤدي للموت، نحن نعرف الموت أكثر من معرفتنا لأشياء أخرى، لم نعد نخشى ·· يكفي أن تدخل أي بيت في غزة لتدرك أنه في كل بيت شهيد، نحن نعيش مع الموت ولم نعد نخشاه، صحيح فقدت بعض الأصدقاء بفعل عمليات ردم أو إطلاق مواد كيميائية على الأنفاق ومع ذلك أستمر في العمل وإذا مت فسيأخذ مكاني فرد غيري من العائلة، حتى يتم رفع الحصار عنا'' ·· هي قناعات كل العاملين في الأنفاق الذين يتحدثون عن عملهم بشيء من الألفة تجعلك تعتقد أنهم وهم يحملون الرفش لا يختلف وضعهم عمن يحمل أي عدة عمل أخرى ·· يؤكدون لك أن البضائع التي تدخل عبر الأنفاق هي التي تجعل الغزّيين يقاومون الحصار، في إشارة إلى أنه يتم إدخال كل أنواع السلع حتى تلك التي لا تخطر على بال، المواد الغذائية، الألبسة، مواد التنظيف، البنزين وكل ما يمكن أن تحتاج إليه الحياة في مدينة عصرية ·· كم هو عدد الأنفاق الموجودة؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه، فهي منتشرة بحسب الحاجة: ''نحن نلعب لعبة القط والفأر، كل ما يكتشف نفق ويتم تدميره تظهر أنفاق أخرى، وحتى وإن وضعوا الجدار العازل وغمروه بالمياه لمنعنا من إدخال البضائع سنجد طرقا أخرى، الأكيد أننا لن نتوقف إلا في حال رفع الحصار الكلي والشامل عن القطاع'' ·· هي قناعات أخرى تؤكد مدى عزم الغزّيين على مقاومة الحصار وإن اشتدت عليهم الظروف، ففي الواقع مهما كان حجم المواد العابرة للأنفاق إلا أن الحصار بات يشكل إبادة جماعية للغزّيين، فلا الإكتفاء الزراعي ولا الأنفاق كفيلان بالحد من تراكم المشكلات الانسانية التي يعيشها القطاع، سيما فيما يتعلق بحركة المرضى ·· الأنفاق التي صنعت الحدث الاعلامي والتي باتت تنغص يوميات المسؤولين الإسرائيلين على اعتبار أنهم خسروا رهان تحطيم الغزّيين وخلق حالة من الإستياء إزاء المقاومة ·· ورغم أن الأنفاق لم تضع حدا للكارثة الإنسانية إلا أنها قلصت وحالت دون أن يتحول الحصار إلى أداة بادة جماعية على مرأى ومسمع العالم، فغزة بسبب الحصار باتت مدرسة للمقاومة بامتياز، حيث الكل يقاوم بطريقته، البداية تكون بالإيمان بمشروعية القضية وتنتهي بحفر الأنفاق لكسر الحصار وإن مات فيه خيرة الشباب إلا أنه لا يستسلم، فالموت في غزة يأتي بطرق مختلف غير أن عنوانه واحد ·· الإستشهاد· ترقبوا البقية غدا حول وضعية السجناء الفلسطينيين بإسرائيل