ولدت في الجزائر لكنني لا أعرف أحياءها بشكل جيد مثل ''شان دو مانوفر'' وغيرها، وبالنسبة إلينا كانت هذه الأحياء ''ممنوعة'' ومنغلقة على نفسها، وبكل بساطة كنا نعيش في محيط العاصمة فقط· أي شخص يصل موقف حافلات ''لا غلاسيير'' يمكنه أن يسأل عن اسم عائلة ما ليتم توجيهه مباشرة إلى مكان تواجدها، ومن بين مشاهير الحي الذي كنت أعيش فيه أذكر ''أحمد السطايفي'' و''علال البناء'' و''يوسف الذي كان يبيع الحليب''، إلى جانبنا نحن ''القطاطفة'' بطبيعة الحال· لقد كان ناس حينا يعيشون على شكل عائلة واحدة، كما كانت هناك شخصيات شهيرة في حينا من بينهم ''محمد بايك'' رحمه الله، لقد كان حلاقا مميزا في عمله ولكنه كان معروفا بمشاكسته وكثرة شجاراته· أتذكر بأن الشجارات في الماضي كانت عبارة عن مبارزة بين شخصين لا أكثر من نوع ''الراس للراس''، تبدأ في بعض الأحيان من ''لا غلاسيير'' لتنهي مطافها في الأخير بالخروبة، دون تدخل أي شخص لإيقاف هذه الشجارات· كان هناك قانونا واحدا وكان على الجميع احترامه، فهذه المبارزات لم تكن تجر للاستمتاع بها أو من أجل مسائل تافهة، وإنما كانت معارك من أجل الدفاع عن الشرف والكرامة والسمعة· هؤلاء المشاكسون كانوا أبطال أطفال أحياء ''العرب'' وكان أشهرهم ''محمد بايك'' و''الاخوة شرشالي''··· وغيرهم ممن كانوا أبطالا، ليس بضخامة أذرعتهم بل بسبب جرأتهم وإمكانية دخولهم ب ''الشنغاي'' إلى ''الجزائر العاصمة''، التي كانت تمثل الأحياء الأوروبية آنذاك، ومع مرور الوقت أصبح أبطال حينا ينافسون غيرهم من الأحياء المحليين من مختلف المناطق أمثال ''جامس دين''· بطلي الأول بالنسبة لي كان ''الشيخ يحيى'' من ''مدرسة''، أتذكر بأن قسمنا كان به باب يطل على الساحة الكبيرة، لقد كان يحمل عصاه ذات الثلاثة أمتار التي تصل إلى أي شخص يراوغ في القسم، ولكن على المستوى التربوي، يدين جيل بأكمله، بما فيهم أبناء حيي، بفضله ولأمثاله على غرار ''الشيخ مصباح''، هذا الأخير لم يكن إلا والد مخرج تلفزيوني بوهران وهو ''حويدق''، لقد كانت طريقته في العقاب أسطورية، فقد كان يدعون إليه ويكلمنا بصوت خافت في آذاننا ويختار لنفسه المكان المناسب في جسمنا ليقرصنا بقوة· ''أحمد'' كان صديقي الذي يقطن بالحراش، كان والده خبازا، وكنا نذهب دائما إلى سينما ''أودان'' ، وكنا نستمتع بسهراتنا من خلال تناولنا لبعض المشويات، لقد كانت لحظات نادرة مازلت أتذكرها جيدا، ومازلت أتذكر حتى الأفلام التي كنا نشاهدها مثل ''مانغالا''، ''ملكة الهند''، ''لص بغداد''·· وغيرها من أفلام المغامرات والمؤثرات الخاصة مثل ''السجادة الطائرة؛ التي كانت تجعلنا نحلم وننسى للحظات الحقيقة المُرة التي كنا نعيشها· الفرنسيون مازالوا موجودين في بلادنا، ومنظمة الجيش السري كانت موجودة أيضا، بعد أن قررت التمسك ب ''العرب''، وحينها تعلمت معنى ''الليالي الزرقاء''، حيث كان بعض أعضاء المنظمة يحيطون أحياء كاملة بالديناميت، وفي ''شان دو مانوفر'' على سبيل المثال، القليل من السكان فقط كانوا يعرفون بأن محل بيع الأجهزة الاصطناعية، قرب النافورة الكبيرة، كان في حقيقة الأمر حانة، وفي واجهته كان هناك موقف حافلات وعمارات قريبة منه، وإذا بأشخاص يطلقون النار عشوائيا على النساء اللواتي كن ينتظرن قدوم الحافلة، ولذلك نجد آثار ثقوب بعمارات ''َّمُِِّْا''· حتى يوم رحيلهم الذي كان بعد إضراب، كنت ب ''لا غلاسيير''، أيام قليلة قبل إعلان استقلال بلادنا، أتذكر بأنه تم إطلاق سراح الكثير من السجناء، وقد هيأ سكان الحي نفسهم من أجل استقبالهم، خصوصا هؤلاء الذين يعيشون بعيدا أو هؤلاء الذين كانوا مرهقين أو مرضى بسبب الاعتقال· ''لا غلاسيير'' كانت من بين الأحياء التي كانت أحسن تنظيما بسبب تواجد جبهة التحرير الوطني، وقد كان لخبر رحيل الفرنسيين وقعه الخاص على مختلف الأحياء، وبعضهم لم يصدق ذلك في البداية، لقد كانت تلك أجمل أيام الصيف بالنسبة لي، وأخيرا يمكنني النزول إلى الجزائر العاصمة فقد أصبحت الآن ملكي·