من بور سعيد إلى بورتو أليغري، شيق جدا هذا الذي يرويه سمير أمين، شيوعي عالمي، تنصل عن عبارة الأسلاف، أسلافه القبطيين وراح يبحث في المكان الأيديولوجي، مذكرات سمير آمين، فيها شيء لافت الأهمية فهي تربية نظرية صرفة ومثاليات وشغل مطابقات··· في الشيوعية المصرية نجد دائما هذه الرؤى الخلاصية والمجهود الإنقاذي الذي تبذله الفكرة وصاحبها، الأرستقراطية القبطية عنده تضليل وتعمية ما فتئ سمير آمين يشرحها من الداخل وهو يبطن مفخرة الانتماء لها، فهو يقول عن عائلة والده أنها كانت مجرد عائلات حديثة امتلكت العقارات الهائلة، والجد كان مهندسا يبرع في الحديث بالعربية وينطق بفرنسية جيدة، وعن الوالد كان وفديا قياسا إلى كراهيته للنظام الملكي، وعلمانيته، بيد أنه استاء من سلوك الشيوعيين الذين أيدوا الناصرية متهما إياهم بمحدودية الأفق، المذكرات مكتوبة بشكل جيد طالما أنها فتحت الخط على برجوازية متعلمة، وطنية، وملتزمة استحى سمير آمين من الحديث عن رذائلها ··· حسنا أستدرك فالجد من الوالد وقد كان يتحدث عن فترة العشرينيات، ربما كان يذهب إلى مقهى البوسفور أو التريانون وغيرهما من المقاهي القريبة ليشرب كأسا الزبيب ويلعب الطاولة مع أصدقائه من اليونانيين أو الأرمن متحدثا معهم بالإنكليزية أو الفرنسية· في دروب بور سعيد البائسة يلمح الطفل سمير وهو في عمر السادسة مشهد القمامة التي يحوم حولها الأطفال الجياع ·· فيسأل والداه المتعلمان / ماذا يفعل هؤلاء / يكون الجواب / لأن المجتمع السيء هو من يفرض ذالك عل الفقراء / ويرد سمير بنباهة شيوعي /سأغير هذا المجتمع / وتجيبه والدته / هذا واجب / · إن صديقا لسمير اسمه أندريه فرانك سأل والدته / منذ متى صار سمير شيوعيا؟ / أجابته كما ترى منذ سن السادسة· ابن الطبيب لم يخف ميولاته في النشاط العام واهتماماته بعالم الفقراء من خلال الوصف والإحصاء والثناء على أسرته، هذه النشأة المريبة، هي باعثة أسئلة لا تنتهي أرق كبير يصيبك لو انك قرأت مذكرات سمير بجزئيها وهي تعكس عالم المثقفين في جمهورية مصر العربية، فمحاكاة المصري للبرجوازية وتماهيه في قوالبها ونماذجها رأي العين واليقين بائنة،جلية، عبارات كثيرة دالة على عادة التلهي بأكسسوارات الأرستقراطيين وطقوسهم، وفي ذالك مخاتلة ولعب بالأهواء الأيديولوجية، يوميات بور سعيد الطافحة بالسرد عن الأجانب، وعن الصيادين وقصص الميناء وحركة السفن، ونقل البضائع إن مدينة بور سعيد تحظى بهذا التوصيف الذي لا يكف عن كونه مثقل بالصخب والمرح وحياة اللهو التي لا يمكن ان يعتادها شيوعي عربي آخر·· في منزلنا كانت المائدة جاهزة لاستقبال جنود فرنسا ··جرأة مدينة بور سعيد من جرأة بناتها اللواتي يرتدين التنانير القصيرة غير الشائعة آنذاك ··ثمة إحالة على ظهور الراقصة المتميز تحية كاريوكا ··· في مسرودات سمير آمين الطفل والمراهق اليافع والشاب اشتباك متقصد بادوارد سعيد في سيرته /خارج مكان/ ففي الليسيه كان يحصل على علامات متندنية عدا اقتحاماته في حصة الأدب وإحداث الغوغاء في القسم، بما في ذالك تعلم عربية الأزهريين غير العقلانية والتي تتم باختيار من الحكومة المصرية · في المذكرات يعلق سمير على إدوارد سعيد فيما يخص هذه المفارقة،، تكشفت قراءة ذكريات إدوارد سعيد الهوة التي كانت تفصل بين مدارس اللليسيه والمدارس الإنكليزية فالدراسة في كلية فكتوريا كما يصفها إدوارد كانت فظيعة بمدى رجعيتها، ومناصرتها للإمبريالية، حتى العنصرية وقد عان منها سعيد لدرجة الإحساس بعدم الانتماء، لقد كان هدف الكليات الانكليزية انتزاع الطلبة من الجذور أو خلق خدام، وذالك بعكس ما هدفت إليه مدارس الليسيه· ولا أحد من خريجي الكليات الانكليزية ونوعية هذا التعليم هي التي جعلت مني ابتداءا من الفصل الثالث أو الثاني، طالبا جيدا بل جيدا جدا·· ينفرد سمير بلطائف عدة ويحرص على إثراء بروفيليه بمصادر معرفية عدة وبتجارب حياتية تخصب تجربة اليسار العربية على المستوى النظري والعملي، الحب المطلق للرياضيات، التعلق المطلق بالسينما، أفلام لوريل وهاردي والأخوة ماركس، شارلي شابلن، الأفلام البوليسية لأغاثا كريستي، أغاني أم كلثوم· الشيوعي المراهق بتعبيره لم يكن ينقصه شيء رغم ظروف الحرب، المنزل البرجوازي الاحتكاك بالأجانب من كل الجنسيات في مدينة هي المتروبول وهي الجسر المتوسطي وهي السلام وهي الحرب وهي الاحتكاك أيضا بعالم الضباط وعالم السلاح·· لا يوجد عند مثقفي مصر هذا التمنع عن حب فرنسا والتعشق بباريس، مستودع أحلام وفانتازمات وغزوات حياتية ونضالية،، كنت أشعر بالراحة وأنا في باريس كأنني في بيتي، باريس بعد الحرب آثار فقر موروث عن القرن التاسع عشر، والمباني والنصب التذكارية لم تكن قد نظفت بأمر من مالرو لونها رمادي قذر هي باريس، وعدد السيارات قليل حيث يمكنك المشي على رصيف المشاة فقط، غير أنك يمكن أن تعيش باريسك بسهولة، الحلوة الجميلة، والثورية ويمكنك أن تعشق الجاز أو تذهب إلى مطعم الفيتنامي، وأكثر من ذالك أن تمر بشارع / لامنتاني سان جنفيف / أو بشارع موفتار ذاهبا إلى مقر الجزب الشيوعي الفرنسي كما تقرأ صحيفة لومانيتي أو تنزل في إضراب عمالي يهدد عرش الجمهورية الرابعة ··· في 1949 كان مهرجان الشبيبة العالمي في بودابيست يمثل نقلة بارزة ضمن الإيمان الحقيقي المثالي بعالم أقل حيفا وإمبريالية، فقبله التقى سمير المنظم الفذ جاك فرجيس، شاركه إناء الطعام وصحن البطاطا كما شاركه في الشيوعية العالمية وفن محاربة الامبرياليين والرجعيين والمرحلة هي أيضا صبوات الحب مع إزابيل في اكتشاف أثينا وليماسول ونابولي ولبنان، إن لبنان تستطيع دائما أن تزيغ الواحد إليها بمائها المترقرق في زحلة، بمازاتها المشكلة والمفرومة، وبحبها للديمقراطية المجتمعية· لقد كان الترحال الذي مارسه سمير آمين خلال مراحل كثيرة من عمرة يؤجج فيه فورة الوعي، وطلائعية الدور، ويمنحه منهجا للحراك الشيوعي، المتوسطي، الشرق أوسطي والعالمثالثي ولذالك فأن هذا المنظر الفكري والاقتصادي العالمي، الذي أنعشته الأدبيات الماركسية منذ نعومة أظفاره، منذ أن سأل عن كومة الزبالة والأطفال لم أستطع أن ألحظ، شخصيا فيه ميلا للمراجعة والهدنة وتقليب وجهات النظر في شيوعية عرفت الكثير من المقلب في آخر أيامها ( هل هي في آخر أيامها، هل هي ماتت)· لم يخف سمير في مرحلته الباريسية تلك العراقيل التي كانت تعترض طريقه وطريق الأممية الشيوعيية في سياق جمع الأهداف الوحدوية كلها، فالوعي الذي كان يحوزه شخص مثل مصالي الحاج يتقاطع مع رؤى الأحزاب الشيوعية التقليدية هو يقول كنا نواجه أحزاب وطنية كبيرة، ومعادية للشيوعية بدرجة كبيرة، كنا نواجه حزب الاستقلال المغربي وحزبي الدستورالتونسي ونجم شمال إفريقية وهي أحزاب سيطرت على توجهات الطلبة في المقر 115 في بولفار السان ميشيل، لقد كنا معزولين تماما بفعل النظرية السخيفة عن الأمة الجزائرية التي سوق الحزب الشيوعي الفرنسي··· إن روعة الصبوات لم تكن فقط في ملوحة الثورة وامتزاجها بعالم السفر الذي يسمح للشيوعي الأخير بأن يلاقي عظماء قرناء له كسنفور أو سيكوتوري بل خلافا لذالك كان يحصل لهذا الجوال الأيديولوجي، الوثوقي، الشيوعي الأخير، أن يشارك في خطط الإنماء لدى هيئات معروفة بتحفظاتها على المذاهب العولمية ذات الأسواق والأنظمة النيوليبرالية المفتوحة واصل في مذكراته تعاطي فعل التمركس إلى آخر جملة من الجزء الثاني التي تتعلق بأوربا اجتماعية وغير إمبريالية··· أعجبتني سفريات سمير آمين، فهو من نوع النضاليين الدوليين اللذين يمكنهم أن يستقبلوا 25 مرة خلال ثلاثين يوما، يدون ملاحظاته الاقتصادية بسرعة،··· يحكي عن كل بلد كأنه قارة، ويستشرف السياسات ويلتقي بالرفاق·· إني ألمح إلى أن سمير آمين لم يكن خارج المكان الأيديولوجي، بل كان في المختبر الشيوعي يمجد الصنم ويعبد الآلهة، أحب داكار وفرصوفيا ونيكاراغوا وسانتياغو، ضد الكومبرادور عاش، وضد الأوليفارشيات عاش وضد النومونكلاتورات عاش في زياراته للمغرب العربي لم يجد ركنا آمنا لنظرياته عن التمركز والتطور اللامتكافئ فراح عارقا في الأنثربولوجيا، لم يعجبه الأكل الحار جدا وتصرفات الرئيس المكروهة في تونس وفي المغرب قال للناس ليست تعجبه تطلعات السلطة الجزائرية التوسعية، وفي الجزائر تعذر عليه إفهام الكادرات الجزائرية بنظرياته ولم يكبت فكرته عن هشاشة الدولة الجزائرية التي كان قد سمعها في فرنسا بدا قلقا ومعلقا في زيارته تلك / أثناء العودة إلى مدينة باتنة في الصباح الباكر، توقفنا عند أحد المقاهي الصغيرة وهناك سلطت جميع عيون الزوار وكلهم من الذكور على إزابيل، اضطر السائق العجوز لتوصيلها حتى باب دورة المياه ووقف حارسا ومهددا من يقترب بإطلاق النار!!! المذكرات هامة وهي تستحق الملاحظة الجيدة أسلوبا كتبت ككرونولوجيا وإحصاء وكمسار خطي موحد تستحق السجال والمجادلة بالحسنى لكنها بلا روح لا روح الأدب ولا روح الفلسفة استثناءا بعض التمريرات في الأنثربولوجيا الاجتماعية، ميزة الشيوعي أنه يبشر بالجنات والأنهار والفراديس غير أنك لا تستطيع الدخول إليه إلا كشيوعي أخير·