ما الذي بإمكان الكلمات أن تقوله عندما يختطف منا الموت صديقا حميما أو عزيزا علينا؟! تفقد الكلمات جدواها، تقف مشلولة أمام الصمت الذي يتحول إلى سلطة خارقة، يعتريها قلق العجز، تنطوي على نفسها فتبدو عارية، متساقطة كأوراق الشجر في فصل الخريف، ومع ذلك نلجأ إليها وهي في زاوية عدم القدرة على الإنبلاج من جديد وعلى الإنبعاث من حالة فقدان الروح والتمظهر من خلال التعبير عن ما يلج بداخلنا من لوعة وحسرة وألم متأرجح بين حالة الكشف عن مدلوله الخفي والمضمر وحالة الإنكشاف من سراديب تلك المناطق الصامتة التي علاها غبار الزمن المنسل منا، والمنفلت من إرادتنا بشكل موارب ومخادع ولئيم·· أحيانا يتبدى الموت آلة حفارة تظهرة فجأة وسط خراب الزمن المنقضي لتنقض بالهدم على تلك العمارة الشاهقة من اللحظات والأيام والسنين التي أنفقنا العمر كله ضمن اللحظة المشتركة مع الأقرباء وغير الأقرباء في بنائها·· يندثر طابق بأكمله، في لحظة فقدان القريب، فلن يمضي ويندثر وحده، بل يذهب رفقة ذلك الجزء الحميم منا·· وما هذا الجزء إلا مجمل اللحظات المعاشة من أفراح وأتراح ومن معاناة ومشاق في سبيل اللحظة التي تتوهم خلودها وبقاءها في نهر السرمدية·· يبدو الموت لحظة قديمة، تحتفظ بكل شراسة أزليتها وعنف جوهرها كحقيقة صلدة متعالية على كل الحقائق المتحولة والمتغيرة والمعرضة لعطب الزوال·· في كل لحظة من انبثاقه يتجدد كحالة، وكسؤال لا حدّ لأفقه، نسعى إلى محاصرته بكل الطقوس التي توارثناها عن الأسلاف والآباء·· طقوس نبتغي منها تحويل المرثية إلى مواساة، واستعادة ما تبقى من صورة الراحل عنا، يعود الله متجليا ومتسربلا برداءات التعزية، وتعود الحياة إلى محطتها العارية والفقيرة، بحيث تبدو مرادفة للوهم المؤقت، للزوال الذي طالما تحاشينا النظر إليه بصفاء وهدوء وهو يتخفى أمام ذلك المد المتدفق والهادر لشلال الحياة·· يلفنا الصمت الجريح، ونحن نقف أمام جلال التواري تحت الثرى لجسد القريب، المتحول لحظتها إلى مرآة خفية ننظر من خلالها إلى لحظتنا المحتومة ونحن نتوارى، ونرحل رحلتنا الأخيرة إلى دار الأبدية·· وأمام كل تلك الأنظار الزائغة، الملتفة حول نفسها، ينبعث من داخلنا كل ذلك الفيض الهادر الذي يعيدنا إلى الأسئلة الكبرى حول تلك العلاقات المتلملمة بين نقطة البدايات ومحطة نهاية النهايات، ثم العودة إلى نهر الحياة وما يثيره فينا من جديد من معارك ضد ما يثيره من تجاذبنا، وفيضانات وانجرافات··· الموت جرح دائم ومتجدد، ومقلب للوع والأوجاع، وليس أمامنا كبلسم لهذا الجرح المولد للحالة السيزيفية المسلطة على حياتنا بهذه الصورة القدرية إلا الكلمات·· الكلمات التي تتحدى حدودها، والمسكونة برغبتها الجامحة على إعادة صياغة اللحظات المنقضية والمنطوية كالصفحات المخربشة والزافرة في كتاب الوجود·· انفجرت بداخلي مثل هذه الخواطر وأنا أقف غير بعيد عن تلك الحفرة بمقبرة خميس الخشنة التي ووري فيها جسد صديقي عثمان سناجقي·· لم أكن أنظر إلى الحفرة·· ولا إلى أولئك الأشخاص الذين كانوا يرمون بالتراب على جسد صديقي عثمان·· بل أحدق إلى تلك الوجوه العديدة، الكالحة، المرتسم على ملامحها علامات أعمق من فصاحة الصمت، وأثرى من الكلمات وأقوى من الألم وحسرة الفقدان·· كنت أجدي منجرفا بالرغم مني إلى زمن مليء بالصور وشتات الذكريات انبعث من أعماقي، وراح يصاعد من سراديبي المظلمة··· وكان صوته يأتيني كالوادي الهادر، القادم من بعيد كاليعبوب المتدفق والمتلاطم الذي كانت أمواجه تصطدم بشاطئ الذاكرة/ الذكريات، باعثة فيّ كل الدفء وكل الفرح وكل النزق الذي عشناه ونحن منتشون بإرادة تغيير الأشياء بداخلنا ومن حولنا·· هل حققنا ما حلمنا به، وتمكنا من شيء من الرضا على ذاك المسار، مسارنا كجيل في تغيير وجه الحياة التي عشناها بكل ما كنا نملك من عناد وأحلام وأوهام؟! حرب الأفكار ومعركة الأحلام تعرفت على عثمان سناجقي في بداية الثمانينيات بمعهد العلوم السياسية والإعلامية بجامعة الجزائر العاصمة، كنت حينها من المنخرطين في تيار اليسار وفي تيار الحركة الثقافية البربرية، كنت في السنة الثانية عندما كان هو في السنة الأولى كان عثمان مناضلا في تيار القومية العربية القريب من حزب البعث العراقي·· كان من أنصار حركة التعريب الشامل والجذري للإدارة·· كنا نختلف على المستوى الإستراتيجي، آنذاك، كان قريبا من المجموعة التي كانت تجهر بمعاداتها للتوجه اليساري والبربري، وكانت هناك عدة أسماء من القياديين الذين شنوا حركة إضراب شاملة، شلت الجامعة الجزائرية، وكان من بين تلك الأسماء مختار مزراق الذي أصبح فيما بعد مديرا لمعهد العلوم السياسية، وعضوا في البرلمان ممثلا عن الأفالان الذي كان حزبا وحيدا·· ومنصور بلرنب الذي كان صاحب التوجه العقائدي والموهبة البارزة في تعبئة جماهير الطلبة، والأستاذ بمعهد العلوم السياسية بن سلطان والصادق بخوش الذي أصبح فيما بعد مستشارا برئاسة الجمهورية ونور الدين نموشي وأحمد قوجيل وخيراني·· وبالرغم أن هؤلاء القادة كانوا بالسنة الرابعة والماجستير إلا أن عثمان كان من ضمن محيط هذه المجموعة التي راحت تطرح فكرها الإيديولوجي على الساحة بقوة وعناد واجتهاد·· وكانت موهبته تكمن في العمل التنظيمي والنشاط السري·· ولقد تمكن في تلك الفترة من تجنيد عدد كبير من الطلاب الشباب الذين كانوا يدرسون في صفه، من بينهم فوضيل الذي انتقل إلى إنجلترا، وعمر كحول الذي سيصبح فيما بعد من أنشط الصحفيين في جريدة المساء، ثم من المؤسسين لجريدة الخبر رفقة عثمان وآخرين·· في نوفمبر ,1982 عندما اغتيل الطالب كمال أمزال من قبل الإخوان المسلمين، كان عثمان ممن نددوا بذلك، وهذا بالرغم من اختلافاته مع الحركة الثقافية الأمازيغية التي كان يعتبرها، عبارة عن حركة مضادة لحركة التعريب·· كان العنصر المشترك بيننا هو الإنكباب على آثار المفكرين من قوميين وعلمانيين بل وحتى يساريين·· كنا نتناقش في نادي طالب عبد الرحمن، وفي لاكافيت حول أعمال الفيلسوف الشيوعي القومي إلياس مرقص، وأعمال المنظّر القومي إلياس فرح، وكتابات مؤسس البعث ميشال عفلق وأعمال ساطع الحصري وكتابات المنظّر الناصري سيف الدولة خاصة سلسلة كتبه حول الثورة العربية، و''هل كان عبد الناصر ديكتاتورا؟!'' كانت هذه الفترة الخصبة من القراءات المشتركة والنقاشات الأرضية الصلدة التي رحنا ننسج عليها خيوط صداقتنا التي كان أساسها الفكر الذي تعلمنا منه كيف نختلف وننجز من اختلافنا علاقة حميمة تحولت إلى صداقة، لم تزعزعها طيلة السنوات الإختلافات والنزاعات التي كانت بيننا يوم أصبحنا صحفيين··· كانت لنا طوباويتنا التي آمنا بها في الثمانينيات وكانت مزيجا بين يسارية معدلة منخرطة في نوع من الأصالة الثقافية وبين وطنية طموحة منفتحة على منجزات الفكر الحداثي، لكن تلك الطوباوية سرعان ما انهارت وانهارت معها كل تلك الأحلام الكبرى ذات يوم من أكتوبر ,1988 الذي فتح أمامنا أبوابا جديدة لخوض مغامرة جذرية، في عهد سمي بعهد التعددية الحزبية والثقافية·· الخبر، سيرة جيل الرومانسية والتمزق بدأ عثمان سناجقي حياته المهنية في جريدة الشعب، كانت له طريقته الخاصة في إنشاء العلاقات والصداقات، لم يكن يحب الظهور والأضواء والمواجهات العلنية، كان يبحث عن طريق الوسطية، ولم تكن تعني بالنسبة إليه سوى الإقتراب من الواقعية البعيدة عن كل يوتوبيا··· هل شعر عثمان بالخيبة من كل تلك الأحلام التي كان منتشيا بها عندما كان طالبا؟! هل لم يعد يؤمن بالقومية العربية، بعد كل الإنكسارات التي ابتليت بها؟ كنت أثير معه، مثل تلك التساؤلات، وبالفعل بدأت أكتشف فيه بداية تخليه عن تلك الحماسة الإيديولوجية التي خفتت بشكل ظاهر وملفت بعد السقوط المريع والأخير للعراق أمام جحافل الجيش الأمريكي·· لكن هذه الوسطية سرعان ما تدفع عثمان إلى الإهتمام بكل ما هو محلي، ولم تعد الأفكار والتيارات الفكرية تشكل بالنسبة إليه أية جاذبية·· عندما استقلت من منصب رئاسة التحرير بمجلة المسار المغاربي، عرض علي زميلي عمر كحول الإنضمام إلى جريدة الخبر وكان الفريق آنذاك يسعى إلى تحقيق نفسه في ظل المشهد الإعلامي الجديد، فعلى مستوى الصحافة الناطقة باللسان المفرنس برزت عناوين مثل جريدة ''الوطن'' و''لوسوار'' و ''ألجيري ريببليكان'' وكان معظم صحفييها وافدين من جرائد القطاع العمومي مثل ''المجاهد'' وبالمقابل كان المشهد الإعلامي الناطق باللسان العربي متكونا من جريدة قديمة مثل ''الشعب'' وجريدة عمومية أخرى مثل ''المساء'' و ''السلام'' التي كان على رأسها الصحفي المخضرم محمد عباس وثلة من أهم الأسماء الممثلة للجيل المعرب·· وكان على الخبر أن تخلق لنفسها مكانة في ظل جو غير متكافئ·· وكان ذلك هو التحدي الكبير الذي رفعه مجموعة من الصحفيين الشباب الذين رموا بأنفسهم في مغامرة شرسة، كان يقودها الصحفي المحترف وصاحب فكرة تأسيس ''الخبر'' عابد شارف، المسنود من فريق شاب، كان يتشكل من عثمان سناجقي وحيوني وشريف رزقي وكمال جوزي القادمين من جريدة الشعب، وعابد شارف، وشروق ومحمد بوازدية ومحمد سلامي وحمزة تلاليف وعمر كحول وعلي جري وعمر ورتيلان ومحي الدين عامر من المساء وزهر الدين سماتي ورابح خلفي من جريدة أضواء ومحمد الزاوي وعبد العزيز غرمول من جريدة الوحدة وصلاح الدين الأخضري وغيرهم·· وجد هؤلاء الشبان أنفسهم في قلب اللعبة السياسية التي لا يمكن فصلها في تلك الظروف عن تفاصيل اللعبة الإعلامية ضمن جو يتسم بصعود الشعبوية الإسلامية وهيمنتها على الساحة السياسية والإجتماعية، وهذا ما ترك الجريدة تعيش تحديات لم يكن فريقها مهيئا لها، لتدخل مرحلة قلقة سادتها التجاذبات السياسية، وكان الإختبار الحقيقي لهذه الجريدة التي ظلت تتراوح بين لعبة الأقطاب إلى أن اختارت طريق التسوية والنهج شبه المهادن للسلطة التي كانت بحاجة إلى يومية تم عسكرتها على صعيد إيديولوجي وسياسي في أتون الحرب ضد الإرهاب·· وكان على سناجقي الذي انتقل من محرر في القسم الوطني، إلى رئيس القسم السياسي إلى نائب رئيس تحرير ثم إلى رئيس تحرير للخبر بعد اغتيال رئيس تحريرها عمر ورتيلان أن يساهم في بناء خط افتتاحي يجيد شد الخيوط من أجل الإستمرار في لعبة التوازنات وفي الحد من بلورة الرأي للإكتفاء بتقديم الأخبار مع التركيز على التوجهات المحلية ذات الطابع الجواري وذلك من أجل تجنب كل مواجهة مع السلطة·· وهكذا انتقلت الخبر في ظل الثلاثي شريف رزقي (المدير العام) وعثمان سناجقي (رئيس التحرير والمصمم للخط الإفتتاحي) وكمال جوزي من المرحلة الرومانسية الراديكالية إلى مرحلة التوافق القائمة على المهادنة وعلى نزعة التوجه الإجتماعي على حساب التوجه السياسي النقدي، وذلك حفاظا على استمرارية الجريدة والتي تبوأت بالفعل مكانة القيادة دونما منازع·· لكن هذا التوافق الذي فتح الباب على بروز مصالح داخل مؤسسة الخبر سرعان ما أدى إلى تناقضات داخلية عملت على بلورتها التوجهات المرتبطة بالتطور السياسي للمجموعات النافذة داخل الهيكل العام للنظام·· تجاوزت هذه التناقضات الداخلية حسابات المجموعات المشكلة للنواة الصلبة للخبر، وانعكس ذلك على بروز النزاعات، واتساع رقعة التجاذبات التي نتجت عنها سلسلة من الإنقلابات الداخلية على مستوى قيادة الخبر في ظل المعطيات الجديدة للمشهد الإعلامي والذي دفع بجريدة، مثل الشروق، التي جاءت كشكل من أشكال التعبير عن تيار الفئات المحافظة داخل المجتمع والمشكلة أساسا من فئة المعلمين العربو- إسلاميين والتي انتقلت في السنوات الأخيرة إلى مرحلة الشعبوية الإعلامية للفئات ذات الثقافة والتوجهات الهجينة والمعبرة عن أزمة هيكلية وعميقة لتقهقر الفئات المحافظة نحو هذا النوع من شعبوية الجموع العصابية·· ولقد دفع مثل هذا التحدي للخبر بالإنسياق نحو مصيدة الصحافة الصفراء المحلية مما جعلها تتخلى عن الأسس المرجعة المؤسسة لمنطلقاتها كجريدة حداثية متأصلة في النسيج الثقافي العام·· ولقد جاء رحيل الصديق عثمان سناجقي في مثل هذه اللحظة العصيبة من التمزق على صعيد التوجه للخبر·· لكن ألا يعكس ذلك ليس تمزق فريق، بل تمزق ذخيرة جيل بأكمله راهن على وعود حلم ديمقراطي لم يعد بخير؟!!