(كما بدأنا أول خلق نعيده) من الآية 104 سورة الأنبياء «الحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته، فله من وإلى وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه “من" ولا غاية فتحكم عليه “إلى"، فله الوجود الأتم والمؤتي جوامع الكلم والحكم..". ابن عربي إنه العود الأبدي بتعبير نيتشه... الدوران يهندس الحياة وكل دورة تكتب ما لم يكن «نصف حياتك قد مضى العقرب يتقدم، وروحك ترتعش تدور منذ زمن طويل تبحث دون أن تجد شيئا. تتردد هنا؟ نصف حياتك قد مضى: ليس إلا الحزن هنا وهناك، ومن ساعة لأخرى الخطأ عما تبحث أيضا: ولماذا؟ بالضبط. أبحث عن سبب لبحثي". نيتشه “العلم الجذل" الحياة تتوارى بي بعيدا عن الحياة والزمن يزحف بي في نفق والنفق متاهة والمتاهة أرخبيلية... الحياة تنحرف عني وبي وأظل ألهث بحثا عن ما يروي الظمأ ويطفئ نيرانا تلتهمني من داخل تمدد خرابه خارجا. النفق يلتبس بي والزمن يمضي... النفق في أمكنة تراوغ منتحلة تشكلات تتبعثر في وتيرة أيام تتوالى خانقة ومغرقة... النفق وأنا كحيوان يوشك على النفوق... الزمن يمشي وأنا أتجمد وأتحجر... غربة هالكة تكتسح والإنكار يطاردني ويلتصق بي في فراشي وفي الطريق وفي كل ما تسلكه قدماي وكل ما ترصده العين وكل ما يلتقطه السمع وكل ما يجذبه الشم وكل ما يصله اللمس وكل ما يرسمه الخيال وكل ما تستحضره الذاكرة وكل ما يرتجف له وبه القلب... غربة تتصاعد والحياة فقدت ألفها فتحوّلت حيّة تنفث سمها بزمن دقائقه دقات هلاك وعقارب الساعة عقارب تلدغ... دائرة تدور بي، لا حدود ولا معالم، تدور الدائرة وكل دورة تزيد الخنق وكل خنق يكثف الغلق... اليأس يكبر والألم لا يحتمل والليل يمتد ويلا يلويني ليا ويعريني بقسوة فظيعة ويضاعف عزلي فأرتجف من صقيع العزل وأتخبط من حدة الظمأ وأغرق متخبطا بيأسي الحاد. العزل قاتل، صمت يتموّج بصخب وصخب يقذف الصمت... الصخب لاعن والصمت مؤبن. يندلق من أنفاق المأزق صخب ويكتسح الصمت المتاهة، اكتساحا نازلا بأسياخ تهندس الفظاعة، تندلق الفظاعة بما يرسم عزلي في نفق يدور مشهرا الخازوق. الزمن يدور ويغرقني في القاع والقاع لا يتناهى... يندلق من الأنفاق ما يضاعف الغرق، ما يضاعف الفظاعة، ما يضاعف الخنق. انتهيت ولم أبتدىء، من البدء جدار صدمني وأوقفني فبقيت أحتال للتحوّل وراءه، للتحوّل نحو زمن بض متدفق بالحياة، متدفق ببهجة ظلت مستحيلة. انهزمت ولم أنل من المراوغة إلاّ التمرغ في السقوط.. البحث طال والزمن يمضي في أمكنة فقدت الكناية والكنه.. كان في النفق مرايا وكانت المرايا تختلط بمرئيات تفقأ البصر والبصيرة.. كان في النفق صوت ينزل كسوط... كان في النفق الفظاعة. كنت أنشد التعويض بجيشان حب يؤثث، كنت أردد ما قاله موزارت: “أبحث عن النوطات التي تتبادل الحب..." كلمات تتبادل المحبة وتتبادل الضيافة الوجدانية فبالحب تنبض الحياة برحيق الربيع وفي الربيع ورد وعصافير تغرد جذلانة... كنت أتقفى ما فقدته في سيرة من ينبضون بالحياة، كانت نبضاتهم تمتد ولكن الجزر يلتهم المد. كان في السبيل سفيان، كان شابا مسكونا بالحياة، كان يراوغ ليتسلل في وسط الميدان وفي متاهات التصدع كان يستوي مصارعا بأمل وبرعشة قلب يتقلب بتقلبات الوقائع المتوالية في أسفار تتوالى ممزقة تأشيرات الذهاب نحو ما يرتق ما تقتق. كان ينتشي بروعة أداء البارسا وبما ينفلت به إيقاع الروك... كان يسعى لامتصاص كل الحياة والتمكن من كل التأشيرات... كان سفيان ملتبسا يحب كأبي سفيان الثناء، يحب ما يبقي له وصلا بالحياة. كان سفيان يسهب في الحلم وكان الهم يداهمه، لكنه ينتصب واقفا ليلمّ ما انشطر من الأحلام ثم يعيد سيرة التسلل للاستواء. يتسلل ليسبح عبر النات ثم يتابع فضائيات تمشهد الحلم، يتقوّت بالمشاهد والايقاعات وتشحنه ايحاءات الحياة فيسكنه الشوبينغ والفاشن، يتابع جديد اللباس والعطر والنظارات والساعات ويتدبر مالا لاقتناء ما يشتهي، كان بذلك يتحدى الجزر وينتصب ينبض بالحياة كان النفق يتلوى وكان سفيان يعيد رسم الأفق وكنت أتقفى خطواته لألتقط الأنفاس فيتكثف النبض لأتذوق حياة ظلت تتهافت. لسفيان مغناطيس الجذب بملامح تقول الحكاية ببلاغة البلاغات كلها، ملامح بنظرات تقول اللوعة والولع، بنظرة ترصد وتأهب للسفر بهدير توقيعات الروك وبفنيات تمريرات ميسي.. لسفيان تلخيص المعادلة ورسم المنحنيات وترتيب الأصول والخصوم في جرد حساب يظل مثيرا للدوران. كنت في متاهي أتاخم سفيان فأسهب سهوا عني لأمتص ما ينقل الحياة إلى تضاريس كياني المتورم. أفقد الضبط وأزداد زوغانا في حلبة تكاثرت الرقصات عليها وتداخلت الإيقاعات وتموضع سفيان في الزحمة ببريقها وضجيجها، وتضاعف الغريب في، وتبينت بتكثيف تراكم هزائمي وخيباتي. كان سفيان يتجلى ويمتد كمصعد يعرج بي بعيدا عن القاع، كان بارتعاشاته يشدني إلى الحياة ويجعلني أتقمص عبره ما افتقدته... كان يتحدث عن همومه ويتحدث عن أحلامه وكان يبحث عن الملاذ، كان يسمع الموسيقى ويغص في أشرطة الفضائيات ويتابع الدوري الإسباني ومقابلات البارسا، كان يمسك الخيط ويحركه خيوطا تتداخل متشابكة.. كان يتابع غراميات صديقه أمين ويعيش مع استيهامات صديقه مراد وينغمس في هموم صديقه إسماعيل... كان يتجيّش فأنزف شوقا للمستحيل إدراكه، شوقا لشباب افتقدته وشوقا لإلف حرمت منه وشوقا لحال لم يحل، حال الاستواء في مقام الحياة. كنت أتفكك وأنا أنحدر، أنحدر وأنا أفتقد حالا يحل به سفيان. يفقد سفيان قدرة استيعابي ويظل مسهبا في شؤونه وأظل مسهبا في متاهي. كان يحكي وكنت أحكي وكان الحكي يتشعب وكان الحكي حبكة وحياكة فالحياة تحاك كلباس وكانت حياكتي حياكة كفن، كانت حياكة سفيان حياكة قماط وبين القماط والكفن مسافة هي الدنيا... من أبيض البدء إلى أبيض المنتهى... كانت حياكتي فتقا لا ترتق فالخيوط تداخلت وتشابكت والإبرة خرمت.. كانت العبارات تنحبس وكان العابر يعبر مراكما لما يشتت العبارات ويفقدها الترابط. كنت التائه الضال، كانت الحياة تجابهني متراقصة باستفزاز يضاعف الوجع... كان سفيان يرسم لي وكان الرسم يتشتت لما يصاحبني في النفق، كانت رفقتي أطياف أشباح ترسل أصداء أصوات ملتبسة بالهول والتهاوي. تضيع الكلمات وسط زحمة الأشياء والخيوط المتداخلة... كما يقول ميشال فوكو: “يبدو أن بعض معقودي اللسان لا يتوصلون بطريقة متماسكة لتصنيف ربطات خيوط الصوف المتعددة الألوان التي تقدم لهم على سطح طاولة".