أعوام طويلة كانت تمر فيها ذكرى 11 سبتمبر التي تذكرنا بتفجير تنظيم القاعدة برجي التجارة العالميين في نيويورك واستهداف مقر وزارة الدفاع الأمريكية.. دون ضجيج أو أحداث كبرى، وعدا بعض الأخبار العالمية التي كانت تعرض عمليات الجيش الأمريكي وحلفائه الدوليين في حربه على أفغانستان والعراق (قبل الإنسحاب)، فإن ذكرى 11 سبتمبر كانت تمر في صورة حدث تاريخي كان من نتائجه بروز شخصية أسامة بن لادن إلى السطح، قبل تمكن الجيش الأمريكي من القضاء عليه، فضلا عن نتيجة أخرى مرتبطة بالحرب الكبرى التي شنتها الولاياتالمتحدة في أفغانستان والعراق خصوصا، وحتى في مناطق أخرى من اليمن وباكستان لملاحقة من تعتبرهم واشنطن أعضاء في تنظيم القاعدة أو حلفاء لهم باستعمال الطائرات بدون طيار. وكان يجب انتظار ليلة أول أمس الثلاثاء المصادف للحادي عشر من شهر سبتمبر 2012، حتى تفرز هذه الذكرى بعضا من الأحداث الجسام الأخرى عندما هاجم مسلحون ليبيون إسلاميون مبنى القنصلية الأمريكية في بنغازي، على بعد حوالي ألف كلم من العاصمة طرابلس، احتجاجا منهم على إنتاج فيلم مسيء للرسول محمد “ص" تواترت بشأنه أنباء مفادها أن مخرجا إسرائيليا قام بصناعته بالاعتماد على تبرعات يهود في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومات السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين، على ما يبدو، اختناقا في الهجوم على مقر القنصلية التي كان السفير بصدد زيارتها، وهو الهجوم الذي استعملت فيه قذائف وصواريخ، وعجزت قوات الأمن الليبية عن صده على ما يبدو أيضا، وفي حدث آخر مشابه تقريبا، اقتحم، مساء أول أمس الثلاثاء، آلاف السلفيين المصريين، بعضهم ينتمون إلى حزب “النور" السلفي المصري، أسوار السفارة الأمريكية في القاهرة، وقد حدث ذلك أيضا إحتجاجا على إنتاج الفيلم المشار إليه، وهو الإحتجاج الذي تم بمشاركة أعضاء في حركة شباب 6 أبريل المصرية المعارضة ومنتمين إلى “ألتراس" الزمالك والأهلي، تمكن أحدهم وفقا للأنباء القادمة من القاهرة، من نزع العلم الأمريكي وحرقه، وكذا استبداله بعلم آخر ذي لون أسود ومكتوب عليه عبارة التوحيد “لا إله إلا الله، محمد رسول الله". وكان زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، الذي خلف أسامة بن لادن “المقتول" على رأس التنظيم، قد أكد منذ أيام فقط، مقتل القيادي البارز في تنظيم القاعدة أبو يحيى الليبي منذ أشهر في غارة نفذها الجيش الأمريكي بواسطة طائرة بدون طيار في المنطقة القبلية “وزيرستان" في باكستان، حيث دعا أيمن الظواهري الليبيين بالتحديد إلى الانتقام لمقتل أبو يحيى الليبي، وهي الدعوة التي يبدو أن الإسلاميين الليبيين لم يتأخروا كثيرا في تنفيذها، على ما يبدو، من خلال المواجهات التي حدثت على مستوى القنصلية الأمريكيية في بن غازي وأدت إلى مقتل السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين، وهي المواجهات التي نفذتها كتيبة تطلق على نفسها “أنصار الشريعة". ويفضي تسارع الأحداث في ليبيا ومصر وما تضمنه من استهداف لمقرات البعثات الدبلوماسية الأمريكية إلى طرح تساؤلات جدية حول مدى تمكن الولاياتالمتحدةالأمريكية من تقليص نفوذ وقوة تنظيم القاعدة لا سيما بعد مقتل أسامة بن لادن، ومن بعده القائد العسكري أبو يحيى الليبي، ومؤخرا فقط قال عميل سابق في المكتب الفيدرالي الأمريكي لإحدى وسائل الإعلام إن التنظيم فقد قوته الرئيسية وأنه لم يصبح باستطاعته سوى القيام بهجومات متفرقة هنا وهناك...! ترى هل بدأت تتحقق الفرضية التي أشار إليها خبراء غربيون في وقت سابق من أن تنظيم القاعدة هو بالأساس فكرة قبل أن يكون تنظيما، وأن الجماعات الإسلامية ستلجأ إلى تنفيذ أهدافه ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية حتى وإن لم تنضوِ تحت لوائه على نحو عضوي؟ هذه فرضية مطروحة فعلا والنسق العام للأحداث يؤكد صحتها إلى حد ما، لا سيما وأن مسألة الفيلم المسيء للرسول محمد “ص" والتي نددت بها السفارة الأمريكيةبالقاهرة حتى قبل اقتحامها من طرف السلفيين، ومعهم الألتراس، لا يمكن اعتبارها وحدها المسبب الوحيد لهذه الأحداث ونتائجها. لقد اجتهدت الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعها دول أوروبية كثيرا في احتواء نتائج الربيع العربي، لكن إفرازات هذا الربيع لا تشكل نمطا متجانسا من الأحداث التي يمكن السيطرة عليها دفعة واحدة، فالإخوان المسلمون الذين لم يشاركوا وفقا لبعض المعلومات الواردة من القاهرة، في احتجاجات السفارة الأمريكية ليسوا هم كل الإسلاميين ووجودهم في السلطة وما يقتضيه ذلك من إنقاذ الإقتصاد المصري بالاعتماد ولو جزئيا، على معونات صندوق النقد الدولي، لا يعني أن السلفيين يقاسمونهم نفس التكتيكات، وهم الذين ساندوا الإخوان في الرئاسيات المصرية وينتظرون البدء في تطبيق الشريعة الإسلامية، عدا إشهارهم العداء للولايات المتحدةالأمريكية والدول التي تدور في فلكها، وما ينطبق على غياب التجانس في كوكبة الجماعات الإسلامية في مصر، ينطبق وبشكل أقوى على ديكور الجماعات الإسلامية في ليبيا، وهي التي كانت تشكل القوة الضاربة في الإطاحة بنظام القذافي. تشكل الكتائب الإسلامية الليبية المسلحة مجموعات مستقلة عن بعضها البعض، ومن الصعوبة السيطرة عليها، وكون طيران “الناتو" قد ساعد الثوار الليبيين في الإطاحة بالقذافي، فإن ذلك يصبح من دون معنى في ظل الوضع الحالي للإسلاميين في ليبيا، لا سيما وأن الجماعات المسلحة للتيار الإسلامي في هذا البلد، توجد بالقرب من مسرح عمليات تنظيم القاعدة من خلال ذراعه العسكرية في شمال إفريقيا والمعروف بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. من الواضح أن إفرازات الربيع العربي قد ساهمت في إطلاق أكبر لجموح الإسلاميين من ناحية عدائهم للولايات المتحدةالأمريكية، وعند هذا الحد فإن مسألة الأسامي التي تطلق على التنظيمات تصبح دون معنى، لا سيما وأن خبراء غربيين حذروا منذ سنوات أن تنظيم القاعدة قد يبقى كفكرة مناوئة لأمريكا حتى وإن تضاءل كتنظيم أو اختفى في يوم من الأيام. ومن الواضح أيضا أن مقتل السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين بالقنصلية الأمريكية في بنغازي، بالتزامن مع اقتحام أسوار السفارة الأمريكيةبالقاهرة.. هي أمور سيكون لها تبعات على نتائج الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، ومن غير المستبعد أن تكون لهذه الأحداث انعكاسات في اتجاه تقوية حظوظ مرشح الجمهوريين ميت رومني لدخول البيت الأبيض في واشنطن، وهو الذي انتقد دائما ما يعتبره “طرقا لينة" يعتمدها الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في التعامل مع خصوم وأعداء الولاياتالمتحدةالأمريكية في الخارج.