في 153 صفحة من القطع المتوسط، يعرض بوشعيب الساوري من المغرب نصه الروائي “إصرار" الصادر عن دار “الألمعية" للنشر والتوزيع، الجزائر/قسنطينة، 2011، بشكل أشد إصرارا على رفع الهامشي إلى درجة المركزي؛ بحيث تصير منسيات الواقع ومغيباته والمسكوت عنه فيه تذكارات حاضرة تعيد إليه أسئلته عن القهر والظلم والجشع والإقصاء. «حين تدخلون بيتنا.. تستقبلكم رائحة عفن خاثرة غريبة مزيج من رائحة التبغ المحترق، ورائحة أثاث.. اشتاق للشمس والهواء، روائح تجبركم على العطس... صرير حاد لبابه الحديدي أفقده الصدأ لونه. أغشية أرائك غرفة الاستقبال.. لم تغير منذ سنين.. زربيتها التقليدية المتهرئة فقدت تزاويقها.. صوفها يتناثر.. ستائرها بهت لونها.. نسج العنكبوت في أعلى أركانها مصائده.. بها كثير من ضحاياه.. مطبخ..انقلب عاليه سافله.. بيت غارق في العتمة". ص 36 37. تروي الشخصية الساردة الفتاة “هشومة" بين لحظة طواف وداعها لبلدة كنيخ، موطئ قدمها ومأهل حياتها الشقية ومنهل دراستها الابتدائية والإعدادية مع حجب المرحلة الثانوية وبين لحظة استعدادها لمغادرتها نحو مدينة مراكش لمتابعة دراستها في كلية الحقوق، ما تعاقدت مع ذاتها على أن تجعل منه سردا يقرأ. “قررت التخلص من عبء سردي ثقيل تحملته لسنوات طوال، لأقول كلامي قبل أن يهل صبحي... قررت أن فتح دفتري للجميع، وسرد حكايتي.." 7، كشهادة على محنتها بسبب تمزقها العائلي وبفعل بؤسها وجرح اغتصابها. “وضعت حكايتي على مائدة الأكل وانسللت مغادرة أحث الخطى باتجاه المحطة". 135. إنه دفترها، دفتر “هشومة"، الذي يفتحه بوشعيب الساوري على قصتين تبدوان متوازيتين: قصة الفتاة نفسها في مدينة كنيخ تحكيها بضمير أنا السارد. “هي حكايتي. هي حكاية رجل وامرأة شاء القدر، وشاءت تقاليد الحكاية أن يكونا أبي وأمي المتطرفين في إهمالي. هي حكاية مدينة “كنيخ". عشتها وصنتها. أرضعتها من مداد قلمي. وغطيتها بدفء أوراق دفتري طوال عشرين سنة.." ص 13. وقصة مسار أبويها (امبارك والداخلة) الغامضة غموض سبب الشحان (المناڤرة)، الذي يعصف بهما، محولا عيشهما، كما حياة ابنتهما، جحيما، لسقوطهما إلى حال من الإفلاس والفقر؛ بفعل إكراهات الظروف المميزة للمجتمعات القبلية والسلطة البطريركية. لعل ما سكت عنه بوشعيب الساوري، بذكاء، كمنبع لخصام الزوجين هو ندم الوالد خاصة على تضييع أصوله العائدة إلى الأرض والفلاحة وهجرته إلى المدينة؛ فآل إلى وضعية بائسة. “سار يتثاقل نحو كومة الأزبال. خالت القطط بداية أنها غير معنية بخطواته الغريبة. لكن شيئا فشيئا بدأ يقترب منها الرجل. كان الرجل هو والدي.. وهو مرمي وسط القمامة والقطط حوله.. اختلطت علينا رائحة سكره برائحة الأزبال". 59 60. قصة يحكيها صوت يتماهى مع صوت السارد الرئيسي (الفتاة)؛ إذ يتدخل كراوٍ، مثل حكيم أو ڤوال، في مقدمة الفصل، ليسند السرد إلى من ينبشون في مصير امبارك والداخلة مرتبطا بمصير قبيلتيهما، كما في الفصل 7 “قال بعض حراس ذاكرة الكوارط" ص 25. وفي الفصول 13، 15، 17، 19، 21، 23، 25، 27، 29؛ من مثل “قالوا والعهدة عليهم" ص 46. و«قال شهود آذان" ص 72. و«قال الرواة" ص 103. و«قال الراسخون في تقصي الأخبار". ص 119. على أن الفصول 31، 11، 9، يبقى فيها السارد الرئيسي هو من يخبر: “أخبرني الحارس الليلي للسيارات، قائلا" ص 129. و«قالت لي أمي الزاهية" ص 40. و«قالت لي أمي الزاهية". ص 31. إنهما قصتان متداخلتان في العقدة مفضيتان إلى حل لغز مجيء الفتاة نفسها إلى الوجود؛ طالما شكت في أنها ابنة غير شرعية وفي أنها هي سبب نزاع أبويها المرير. “اجتاحني وسواس غريب.. أني ابنة غير شرعية". ص 16. للوصف المكاني كمحور له الشخصية الرئيسية ، والذي أفرد له بوشعيب الساوري جهدا لافتا، يترسب في ذهن القارئ، وهو يخرج من فضاء بلدة كنيخ المغربية: صور زنقاتها المتربة، وأضوائها الكابية، وكلابها وقططها الضالة، وصعاليكها مثل حمودة الهبيل ومتشرديها، مثل سمير الكلايبي، وأطفالها، كعلال الزيتونة، وكل ما هو متروكة له الأحياء الشعبية من قذارة؛ لتراكم الأزبال، ومن تطاير للأكياس البلاستيكية وغيرها مما يشرخ وجه المحيط؛ كما هي عليه الحال في أي مدينة مغاربية ريفية.".. وأن أقوم بجولة تفقدية لأزقة ودروب وساحات مدينة “كنيخ" المزينة بالحفر والأكياس البلاستيكية المتعددة الألوان. كانت تصلني من بعض زواياها وخربها رائحة تزكم الأنف؛ مزيج من بول الإنسان والكلاب". ص 5. كما تترسب صورة هذه الطفلة “الهشومة"، في سن السابعة تضطر إلى ضمان قوت يومها هي وأبويها، متجاوزة سنها، وتوفير مبلغ شراء لوازمها المدرسية؛ تجمع الأواني الحديدية والنحاسية والبلاستيكية المهملة أو المرمية في القمامة أو تلك التي تسرقها من فوق السطوح، تتسلقها مثل قطة وقت القيلولة؛ فعرضها ذلك غالبا إلى الضرب والكمدات والجروح والندوب، مثل الخط الطويل على ساقها رسمته قطعة قصدير حادة اصطدمت بها إذ هربت مرة من على سطح فمزقتها قسمين. كانت تبيع غنائمها في سوق الخردة. إنها شخصية استثنائية. “اختفت قدماي وساقاي وسط.. أكوام للأزبال.. أثارني وجود آدميين.. يفترشون الأزبال.. التفوا حول قنينات.. انتبهوا لوجودي.. تقدم أحدهم متثاقلا نحوي.. حطت يده على ظهري.. تهجى جملة غزلية..تركت ما كانت تمسكه يدي. تعقربت. أزحت يده بقوة. عالجته بركلة على مستوى بطنه بمهارة بغل..." 92. ولكنها أيضا على هشاشة كل أنثى، لحظة اغتصابها في ليلة مرور شاحنات جمع التين الهندي: “كنت أعدو.. في الطريق الرملية، خلفهم، فإذا يد خشنة تكمم فمي وأخرى تحيطني من بطني وتحملني بعيدا عن اتجاه الشاحنات.. (إلى) بيت طيني خرب.. حاولت المقاومة.. وضعني أرضا.. هوى بجسده الضخم على جسدي.. في الصبح الموالي.. خرجت منكسرة حسيرة ينتابني شعور بأني فقدت قطعة من جسدي". 127. قارئ “إصرار" الجزائري، نظرا إلى ما وظفه بوشعيب الساوري، من تعابير جارية ومن مسميات الشخوص وألعاب الأطفال والأشياء ذات الاستعمال المنزلي وألبسة الرجال والنساء الريفية والزينة وبعض الفواكه البرية، التي لا تختلف عن مسمياتنا في الجهة الغربية من الجزائر خاصة، وكذا العوائد الاجتماعية والطقوسية المترسخة في الريف، يجد كأنه يقرأ نصا كتبه واحد من مدينة تلمسان أو معسكر أو غليزان أو نواحي وهران. ولابد أن هذا القارئ ستشده مشاهد من مثل: الأطفال المتسابقين ليلا نحو الشاحنات لأخذ صناديق جمع التين الهندي. البطلة تنزف من ساقها فيقول: “يا لها من بنت عنيدة متحدية!". وجهها المقتم وهي توجه ركلة إلى حجر المتشرد في “المزبلة". لحظة تضورها جوعا قبل أن يدق الجرس لتسرع إلى الدار، بعد أن خاب أملها في “سرقة" دريهم تشتري به الفول المسلوق. اغتصابها المصور على درجة هادئة من الفظاعته. فكم يهول صمتها على إخفاء جرحها الآخر! شخصية الطفلة “الهشومة" التي تنمو على العناد والتحدي والإصرار شخصية آسرة فعلا. نص “إصرار"، على مرارة طعم موضوعه، يقدم سردا على درجة لطيفة جدا من الحلاوة. ذلك، بما حمله من معاينات واعية، برغم ضراوة ما يعتمل خلف كل صورة لها، منقولة بلغة رزينة واثقة، عن بلدة كنيخ، بؤرة الأفعال والأحداث التي تؤثث مسار الشخصية الرئيسية. إنه نص ذو بناء تجريبي بالنظر إلى حبكته، هادئ وواثق، وثوق صاحبه بوشعيب الساوري وهدوئه. كتابة مثل “إصرار" تعجبني؛ لأنها، غير متغربة، نابتة جذورها من تربة بيئتها؛ بألوانها، بروائحها، بلكنتها وبأسرارها. غير أن نص “إصرار" يفرض أيضا على قارئه طرح سؤال الأثر: ما حدود الفصل بين إسقاط وقائع السيرة الذاتية على شخصية متخيلة من جنس مختلف (أنثى) تنوب مناب الراوي/الكاتب وبين المتخيل الصرف؛ حتى يمكن القول إن هذا عمل تخييلي كلية؟