رؤية مغايرة كنت ولا أزال أعتبر التمرد قلقا وجوديا يعتري الإنسان ليفصح عن رؤيته للعالم وللتفاصيل والأشياء والكون. بمعنى آخر هو رؤية نقدية تنبني على فلسفة تؤسس لبناء العالم والكون برؤية مغايرة، رؤية بديلة عن السائد الذي يستكين لأوهامه ويرسخ الرتابة والروتين والتطرف. أقصد رؤية جديدة تنظر للأفق بأقصى ما يمكن من الأمل وتعمل في حدود الإمكان والممكن لتشييد هذا الصرح الهائل كل من موقعه، وأنا ما يهمني من هذا الصرح كله هو القصيدة وأعتقد أن راكمت من متن نصي على مدار ثلاثة عقود من الزمن الشعري ما يشفع لي حق الانتساب لهذه الرؤية. الشعر والانزياح لا يستقيم حال الشعر إلا بالانزياح عن كل ما هو سائد ومألوف، بل يحتاج لتفعيل المتخيل، والاستعارات، وصيرورة الصور، والبلاغة النادرة، وإلا أصبح الشعر تقريريا بلا طائل ولا معنى. الشعر لم يكن يوما لغة عادية وإلا صار رتيبا ونمطيا ودون روح إبداعية، وما يميزه عن القول العادي هو كونه يخترق المألوف وينزاح عنه بكل ما أوتي من قوة إبداعية متجددة، ويحدث حالة الانفصام والتصدع، لتنزاح القصيدة بذاتها عن هذا السائد اللاشعري وصولا إلى الجوهر الحي لفوران الشعر الذي تنتسب له دوحة وشجرة أنساب شعراء كل المعمور وكل القارات الخمسة. مفردات لا أجد صعوبة في اختيار مفرداتي الشعرية، إذ تشكل هذه المفردات جزءا مهما في حياتي قد تصل إلى حد الاستعارات التي أعيش وأحيى بها وعبرها. ولا أعتقد أني أبالغ إذا قلت إن الشعر أصبح نفسا يوميا بالنسبة لي، ومعها أصبحت مشاهد الحياة من موقع رؤيتي للأشياء مقاطع شعرية، ولقطات مدهشة للسينما، ولوحات مفتونة بالتشكيل، ورغم كل المأساة التي نعيش حالاتها الآن لا تزال الحياة جميلة، على حد قول الشاعر الأممي ناظم حكمت. مخاض القصيدة كل قصيدة تستجيب لطبيعة ولادتها، فهناك القصيدة المستعصية التي تتطلب مخاضا عسيرا علها تجد طريقها إلى الولادة، وهناك من تبقى حبيسة هذه الشروط القيصرية، فمن نص لآخر تختلف وتتعدد وتتنوع طبيعة هذه الولادة. القصيدة لا تصبح طيعة، إلا بعد أن تتضح معالمها، فهي رحلة نحو المجهول، نحو اللامتناهي، رحلة نحو اكتشاف مغاوير الذات وتناقضاتها، تمظهراتها وتجلياتها أيضا هي رحلة نحو فك وتفكيك حالات الالتباس والغموض الذي قد توجد عليها الذات أحيانا. في هذه الحالة أو لنقول الحالات، كيف للقصيدة أن تكون اعتيادية..؟ منتصف الطريق إلى القصيدة لا أدعي الكمال في ما يخص تجربتي الشعرية، ولأني أيضا لا أقول إني في بداية الطريق فإني بالتأكيد في منتصفها، هذا المنتصف يقارن بربع قرن من التجربة في الكتابة، لا أنكر أني في مراحل سابقة اقتفيت أثر الآخرين، استفدت من متخيلهم، وتقنيتهم في رص النص الشعري. أما الآن فأعتقد أنه آن الأوان لأفصح وبعمق عما تخالجني من فوضى وما يعتريني من انكسارات تجعلني بالضرورة غير راضٍ عن العالم، أليس الإبداع هو الرؤية النقدية والمغايرة عن العالم. عبر التراكم المستمر والمتواصل ينتقل المبدع بقوة الإنتاج، إنتاج النصوص العديدة والمتعددة المتنوعة والمختلفة في آن، من مرحلة الكم إلى الكيف، والكيف يؤكد لدى المبدع أنه تجاوز مرحلة التقليد ومحاكاة الآخرين، وبداية الانصهار نحو جديد الذات وافقها الإبداعي. في البحث عن النص الأنسب قصيدة النثر قصيدة إشكالية بالأساس ومغايرة وغير مهادنة، قصيدة مفعمة بالتناقضات في المعنى والشكل معا، قصيدة ثائرة على كل ما هو تقليدي ونمطي وعادي واعتيادي، من هنا قوتها في الفعل الإبداعي كامتداد للحداثة والتحديث ولما بعد الحداثة أيضا. في شعاري “إنها لقصيدة حتى النثر" وهو تصور ذاتي للكتابة الشعرية أحاول بلورته من خلال انتمائي للكتابة الشعرية، وعلى المستوى الشخصي أصبح دليلي للانصهار في فاق القصيدة وتداعياتها ولا أدعي أني أؤسس -العمل على المؤسسة - عبره لمدرسة أو تيار في الكتابة، فهذا ليس من شأني ولا يهمني بتاتا، إنها مقاربة في اختيار النص الأنسب، والنص المشتهى، والنص الآسر لجدل الحواس ليس إلا.