يكشف بشير مصيطفى، في هذا الحوار ضمنيا، أنه كان عضوا في الحكومة بلا صلاحيات موضحة بمرسوم منذ الرابع سبتمبر من العام الماضي، تاريخ إعلان الحكومة. وكشف في سياق آخر أن حلول الحكومة الاستعجالية إزاء أزمة الشغل في الجنوب تتطلب إجراءات مرافقة حتى لا يزيد التضخم. ولم يخف اندهاش الأفامي من نسبة التضخم العاليةبالجزائر، لكنه بالمقابل يؤكد وجود إرادة سياسية للعمل مستقبلا بالاستشراف، بدليل طلب وزارات إنشاء خلايا يقظة استراتيجية. الإجراءات تدخل في إطار معالجة مشكلة قائمة، وهذه المشكلة لها ما يشبهها في الشمال، ثم إن البطالة مشكلة هيكلية تدخل في صلب الاقتصاد وليست مشكلة عامة أو عارضة لأنها من التوازن بين العرض والطلب، والتوازن هو هدف من أهداف التنمية الاقتصادية في كل الدول وليس في الجزائر فقط. البطالة موجودة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي أوروبا بشكل أقوى وأصعب مما هي عليه في الجزائر. ولكن النظم الاقتصادية تعترف أن البطالة مشكلة هيكلية، ستعالج عندنا في إطار سياسة الدولة الاقتصادية. أما قضية تشغيل شبان الجنوب ستظل موضوعا وهدفا لإجراءات حالية ومستقبلية لأنها ليست مشكلة حديثة. فالعرض والطلب في سوق الشغل يتطلبان سياسة متوسطة وبعيدة المدى. أما عن سياسة قريبة المدى فهي إجراءات فورية، وأما الاستشراف فهي باتخاذ تدابير متوسطة وبعيدة المدى تستمر في المستقبل لإدارة مشكلة ما ويمكن أن تحل مشكلة قائمة أيضا، وإذا لم تكن لدينا مشكلة في المستقبل فلا داعي للاستشراف. الاستشراف هو أيضا آلية لاستغلال الإشارات الضعيفة غير المتحكم فيها الصادرة عن ظاهرة أو وضع ما لبلورة حلول تحتويها، وهنا يكمن دورنا، أي وضع سياسة متوسطة وقريبة المدى لإحداث توازن بين العرض والطلب في سوق الشغل، ولذلك أنشأنا نيابة مديرية، كاملة اسمها نيابة مديرية التشغيل، لحل المشكلة على المدى البعيد. لقد تم استحداثها منذ شهر فقط، وقد صدر قرار استحداثها في آخر عدد من الجريدة الرسمية، وهي مزودة بإطارات تعمل على تشخيص وضعية السوق واقتراح الحلول المناسبة. نحن نعمل في إطار حكومي ومن الطبيعي أن يكون الملف أولوية. المديرية أنشئت قبل أزمة الجنوب، واقترحنا هذه النيابة منذ وصولنا إلى الوزارة في الرابع من سبتمبر الماضي. الوزارة كلها مجندة لاقتراح حلول حول الوضع في الجنوب. لقد حدّدت صلاحياتنا بمرسوم منذ أقل من شهر فقط، وكذلك الهيئة الإدارية، وبالتالي من المبكر جدا وضع منتوجنا في السوق. وبدأنا في العمل الذي قد تظهر نتائجه مع نهاية 2013 وبداية 2014. آلية الاستشراف تتطلب عملا إحصائيا وجهدا دراسيا، فالمسألة ليست مسألة أمنية بل مسألة أدوات الاستشراف. وقضية الصدمات والمفاجآت في الجزائر ليست متعلقة بسوق الشغل بل حتى ارتفاع الأسعار والتضخم. ولم يكن حتى صندوق النقد الدولي يتوقع تضخما بنسبة 8.7 بالمائة بل كان المتوقع في حدود 4 بالمائة. حتى الخبراء المتطورون في العالم يقفون عاجزين أمام الإشارات الضعيفة للظواهر والأوضاع الاقتصادية، ولهذا أطلقنا نظام “اليقظة الاستراتيجية"، وللإشارة فإطلاقه كان قبل مشاكل الجنوب. لا أحد يستطيع الإجابة على هذا السؤال إلا بعد الفراغ من النظام الإحصائي الوطني الذي نحن بصدد إنشائه، أما الأرقام الأخرى قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، فهي قادمة من القطاعات وكل قطاع له تقنياته وطريقته في الحساب وليس من نظام وطني. أما ديوان الإحصاء فنعتد به، وما دام الرقم جاء من هذه الهيئة فهو مقبول. لا أحد يستطيع تقييم الرقم، لأن الذين لا يثقون في نسبة البطالة التي منحها الديوان يستندون على مشاهدة ما هو في الواقع وليس على دراسة علمية. أما طريقتنا في العمل فليس بالمشاهدات بل بطرق ومواصفات من خلال نظام إحصائي وطني ينفذ معايير الأممالمتحدة في قياس البطالة، فقط عن طريق نظام إحصائي وطني يمكن تحديد نسبة البطالة وتعريفها كما هي. عندما تكون موجودا في العاصمة لا علم لك بما يحدث في ولايات ومداشر وقرى بعيدة، لأن المعلومة ليست بيدك، وهي عبارة عن إشارات ضعيفة كما نسميها، وما يمكنك التحكم فيه والاستناد عليه هي الإشارة القوية التي بيدك. فمثلا باستطاعتك أن تقوم بإحصاء في المدن ولكن الأقاليم التي لا تجعلك تصل إليها تصعب عليك الأمر. ثم إن هناك من يعتبر العمل المؤقت عملا محسوبا يمكن إدماجه في الإحصاء، وهناك من يعتبر العمل غير الدائم غير قابل للإحصاء، وهكذا.. وما دام لم يتم الاتفاق حول تعريف موحد للمحددات والمعايير، تبقى المعلومة الإحصائية مشوشة لم تثبت مصداقيتها ولو كانت كذلك. قد لا أقول خطأ، وإنما أقول أن الذي تتحدث عنه يدخل ضمن تطور التفكير العادي عند الدولة.. الإهمال أو عدم إيلاء الأهمية للاستشراف قد يعود إلى أن البلد لم تكن تشعر بالخطر. فالتي تبتكر طرق الاستشراف هي الدول التي تشعر بالخطر فتراها تجتهد في هذا الباب. عندما يكون هناك أمان واطمئنان لا تشعر بالخطر، كالغني الذي يكون مطمئنا لمستقبله فلا يحتاط. عندما تشعر بالخطر تجتهد في الاستشراف، ومن الذي يحتاط ويفكر..؟ هو الذي له ثروة في الاستثمار مهددة بالخطر. أنا أتحدث عن شعور بالخطر وليس عن وجود الخطر. أحيانا تكون مريضا ولا تشعر بمرضك، إذن الشعور بالخطر هو الذي يدعو الدول إلى إيجاد آليات وميكانيزمات للاحتياط، مثلما فعلت تركيا وماليزيا والبرازيل والصين وكوريا الشمالية وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. الصدمة المالية التي حدثت في البترول في 86 وصدمة منطقة “الأروزون" أو الصدمة المالية التي حدثت في الولاياتالمتحدةالأمريكية في 2008، أعطت إشارات إيجابية بالنسبة للمستقبل لكل دول العالم. كل خططنا الحالية ينبغي أن تكون مبنية على الاستشراف، لأن المستقبل هو الذي يحدد الحاضر. الإجابة عن سؤال كهذا لا يمكن أن يكون دون منهجية علمية. والحلول التي نعمل عليها حاليا مدروسة، وكفانا من الارتجال. هذا يدخل ضمن الإجراءات العاجلة، فقد أصدر الوزير الأول حلا عاجلا كإدماج شبان الجنوب في شركة سوناطراك، ووضع التشغيل تحت قبعة وطنية وليس أجنبية، ومراقبة الشركات الأجنبية التي توظف خارج المعايير، ومنح التوظيف لصالح شركات المضاربة التي تهمش القدرات المحلية. أولا لا يوجد عمل علمي ورصين إحصائي، أوعملية جرد للكفاءات العلمية التي يتحدث سؤالك عنها وكأنها قليلة أو غير موجودة، وبالتالي ما تقوله مبني على مشاهدات كما قلت سابقا. أما المعيار الذي نعمل به نحن فهو أكثر علمية وواقعية للتوصل إلى الحقائق. أنا أعرف شبانا من الصحراء علميين. فئة البطالين في الجنوب ينبغي أن تخضع لتكوين مدفوع الأجر كأنه عامل إلى غاية الإدماج، وسوناطراك لا تطلب فقط مستويات المهندسين، ولكن لديهم طلبات توظيف صغيرة. ولماذا لا ننجز منطقة أو حيزا لإطلاق مؤسسات، كسيدي عبد الله بالعاصمة، ونعد مشتلات للتوظيف في إطار التكوين، فنجد أنفسنا شكلنا نسيجا جديدا. أخالفك الرأي، لأن فخامة رئيس الجمهورية أنشأ وزارة الاستشراف ثم كتابة الدولة للاستشراف، وهذا يكفي كدليل على وجود إرادة سياسية لإبطال العمل بهذا النوع من الحلول الاستعجالية، واستبدالها بحلول استشرافية تعرف المشكلة قبل حدوثها، وبالتالي تعمل على انتفائها قبل مجيئها. هناك إشارة إيجابية من الحكومة لتقبل نظام اليقظة الاستراتيجية والنظام الوطني للإحصاء. أنا لا أرى الأمر من هذه الزاوية، ولا أعتقد أن المسألة تستوي بطرحها من هذا المنظور. ما أنا شغوف به هو أن أضع للدولة الجزائرية نظام استشراف إيجابي يجعلها تتحسس المستقبل. كما أننا وزارة تفكير وليس وزارة تنفيذ. لا أقول لا ولا نعم. أنا معني بإرساء نظم لليقظة تستشرف الصدمات حتى لا تتكرر، سواء في التشغيل أوفي الصحة أو التربية أوالتضخم أوالنمو أو الشباب والطفل والمرأة، أو التماسك الاجتماعي، أو التنمية الاقليمية، أو التغيرات الخارجية وتأثيرها على الداخل وتوازن الأسواق، والتنمية البشرية. لست معنيا بالاجابة بنعم أو لا.. أعمل على نظام يمنح إشارات حمراء عندما تكون أمور غير جيدة على 10 أو 15 سنة، وإشارات خضراء عندما تكون الأمور جيدة وإشارات بنفسجية وبرتقالية عندما تكون الإشارات ضعيفة أو متوسطة.. وهذا همّي وهم الفريق العامل معي. النظام أشمل من الديوان، يتغلغل أكثر في القطاعات ولا يعالح مشكلات ظرفية، بل عمله مستديم وأعمق وأشمل. وقد بدأت مختلف القطاعات الوزارية تطلب منا إنشاء خلايا يقظة خاصة بها. النظام يشمل قاعدة بيانات ومعلومات وطريق سريع يسهل الحصول على المعلومات وله علاقة بالأقاليم، ولديه أذرع من خلال إطلاق مديرية التخطيط والاستشراف، والنظام الوطني سيحدد بصلاحيات مثل الديوان الوطني. الإنفاق العمومي وسيلة من وسائل تدخل الدولة في الاقتصاد المبني على المزاوجة بين فكرة اقتصاد السوق والدولة، هذا النظام يعطي الدولة صلاحية التدخل عند وقوع اختلالات، سواء آنية مؤقتة أو دائمة. الدائمة تعالج بسياسات في مخططات دائمة. فالولاياتالمتحدةالأمريكية في أزمة البورصات أنفقت 750 فيما يعرف بالسياسة النقدية، ولكن لا ينبغي الإنفاق بهذا الشكل كحل دائم الذي قد يولد التضخم، بل يجب مرافقة مثل هذا النوع من الإجراءات، كسحب السيولات من المصارف. إذا كنا نعتمد على العلم في حل المشاكل سننجح، وأريد منح إشارة أمل لأن الحكومة واعية بالتحديات. وعندما استلمنا الحقيبة كانت أمامنا تحديات يجب رفعها ورهانات ربحها. وللقراء الكرام أقول إن سياستنا ستكون مثمرة على المدى القريب، سنكشف الحلول في 2014، خاصة بعد تجاوب مختلف مؤسسات الدولة والقطاعات الوزارية لإنشاء خلايا اليقظة الاستراتيجية، ومادامت الحكومة كلفتنا بهذه المهمة، فمعناه أن هناك إرادة قوية لتحقيق جودة الحياة، ونحن نعمل من أجل ذلك. نعم بكل حرية، وأدعو لضرورة بناء لوحة قيادة للمستقبل، لأنه ليس الحاضر الذي يصنع المستقبل بل العكس، قاعدتي أن علينا أن نبدأ بشكل صحيح ولا يهم متى نصل، لأن الوصول إذا بدأنا بشكل صحيح فسيتحقق، وإذا اعتقدنا أننا وصلنا فهذا معناه أننا لم نبدأ بعد. وعندما نبدأ بشكل صحيح فالتوازن سيتحقق آليا. وفي الأخير من بين ما أود تقديمه كرسالة أمل هو إعجاب الأممالمتحدة بنظام الإحصاء الوطني الذي نحن بصدد تجسيده، حيث أعجب كل من بان كيمون وكارلوس لوباز بذلك لدى حلولهما بالجزائر، وهو ما حفز الأممالمتحدة لدعم ترأس الجزائر لقمة أدبيجان القادمة للجنة الاقتصادية الافريقية. وقد تقرر ذلك بعد اجتماع الرباط للخبراء الاقتصاديين، وهي القمة السادسة التي يشارك فيها وزراء إفريقيا للمالية والإحصاء.