- الأوركسترا السورية تعزف الحاج العنقى باقتدار حضر السوريون إذن لمهرجان الجزائر الدولي للموسيقى السيمفونية، كعادتهم دائما كلما وجهت إليهم الدعوة لإثراء برنامجه الفني. كان المجيء رهان المجموعة وأمل المنظمين الذين ترقبوا قدوم الوفد من شام مرهون بحسابات سياسية وطائفية دامية. لكن المنظر الذي تقدم به عناصر الفرقة كان جميلا بكل المقاييس، رجال ونساء من كل الطوائف والأديان، يشتركون في حلم سيمفوني واحد، تجمعهم آلات تعزف على كراس موحد أيضا كتب عليه النص والإيقاع نفسه، وتحت توجيهات المايسترو الشاب ميساك باغبودريان، استجابوا لخطته الفنية للفوز بقلب الجمهور الجزائري، الحاضر في ثالث سهرة من سهرات هذا المهرجان. عندما خاطب ميساك القاعة شاكرا إصرار الجزائر على مجيئهم، قاطعه الجميع بهتافات "- viva - سوريا"، تصفيق قطع أنفس الموسيقيين الذين اختلطت على وجوههم علامات الفرحة والحزن في آن واحد. وبين البسمة والأخرى، مسح الآخر دموع خانت رزانته وهندامه الأنيق، فيما فضل الآخر أن يلقي أبياتا شعرية عن الجزائر ألفها شخصيا. هكذا نطق الموسيقي السوري هذه المرة، وكسر الجدار الرابع الفاصل بينه وبين الجمهور، ليسقط قاعدة العزف دون كلام، وليكون الكلام جزء من الحالة العاطفية المؤثرة للجميع هاهنا. الحفل السوري السيمفوني افتتح بمقطوعة من نوع البالي الأوبرالي مكونة من اربعة حركات بعنوان "ال غواراني" ألفها أونطونيو كارلوس غوماس، مؤلف برازيلي مشهور في مجال الأوبرا. غوماز عاصر العهد الإمبريالي لبلده، استطاع عبر مؤلفاته أن يحكي ثقافته المتعددة، علاقته بأوروبا وعوالمها الراقية بألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا أيضا، وكذا التغيرات السياسية التي بدأ البرازيل يصبو إليها من أجل جمهورية مثالية كافح لأجلها جيل بكامله ليعلنوا عن ميلادها في 1889. إلا أن ميساك قائد الأوركسترا السوري اختار تعديل طريقة أداء هذه المقطوعة، وفق الآلات النحاسية التي طبعت الفرقة الحاضرة في السهرة، دون بقية الأعضاء ذوي الآلات الوترية والإيقاعية الأخرى. ومع "أوجان أونيغين" كان طيف تشيكوفسكي يحوم على رؤوس من يعرفون مغامرته مع هذه المعزوفة. ورغم غياب اللوحات السبعة التي بنيت عليها المعزوفة، إلا أن التوزيع الموسيقي وفق مقتضيات السهرة، وطبيعة الآلات الحاضرة هذه المرة، ترك الانطباع بوجود قصة تراجيديا تحكي ما حل برجل غارق في الأنانية، لا يعيش إلا ليندم على حب امرأة ضائع، ويحيا في صراع مستمر مع أقرب الأصدقاء إليه بدافع الغيرة وحب التملك. قبل "كارمن" بيزي، فسح المجال للدربوكة الشرقية تصنع لها طريقا سوريا وسط مسارات عالمية سريعا ما تقبلها الحضوروانسجم مع إيقاعها، ليكون بذلك ميساك باغبودريان قد نجح في استمالة الحاضرين بقوة لتحيته وفرقته. ولكن لا شيء يضاهي الهدية التي قدمها ميساك ومجموعته للجزائر كلها، "عليك مني سلام يا أرض أجدادي" ترنح عليها الكبير والصغير، وردد في قلبه بعض أبياتها الجميلة، والأجمل عندما استحضرت الأوركسترا الحاج محمد العنقى بأغنيته الشهيرة "الحمد لله ما بقى استعمار في بلادنا"، أغنية من نوع موسيقي صعب على المشارقة باعترافهم، إلا أن ميساك وفق في توزيعها موسيقيا بشكل يناسب طبيعة الآلات النفخية النحاسية، فتجنب السقوط في مساحات صوتية تعتبر من المنعرجات الكبرى التي لا يتقنها إلا الكاردينال ورواد أغنية الشعبي الجزائرية. جدير بالذكر، أن المشاركة النمساوية والتشيكية في سهرة أول أمس، عرفت محطات متنوعة من الريبرتوار العالمي، لم تخلو من الرومانسية الحالمة والتراجيديا الآسرة.