شكلت ثنائية الصحافة والأدب تلازما تاريخيا في الثقافة العربية، فالأديب هو من يقدر على تعاطي الشأن العام والخوض في القضايا اليومية ويبرز اسمه على أعمدة الصحف ويتصدر بصورته وبأسلوبه وبلغته الصفحات اليومية والأسبوعية وكذلك المجلات السيارة التي تنقل الخبر وروح الخبر، أي يأتي الصحفي من الأدب لا بصفته متخرجا من معاهده بل بصفته متمكنا من اللغة، يكتب بحساسية ينفرد بأسلوب ما، ومتابع جيد لما يكتب أو يشاهد أو يعارض، إن الأديب هو الصحافي في الثقافة العربية أو كأنه الكاتب بالضرورة لا أتحدث هنا عن ناقلي الأخبار أو المعلقين الإعلاميين أو المبعوثين الخاصين أو كتاب التقارير بل أتحدث عن الكاتب المنخرط، الذي يساجل في صفحات النقاش أو من يقدر على التدخل في الأحداث والحوادث أو كاتب العمود أو من يطلع على الناس بافتتاحية هي خط جريدته أو هي أسلوبه أو لغته أو روحه أو خطه هو انحناءات كلماته وأفكاره.. يكتب الكاتب إذ هو يتصرف مع اللغة ومع الأسلوب كما مع الجريدة والجمهور زكما مع القارئ سواء أكان القارئ قارئا تقليديا اعتياديا متمرسا أو قارئ عابر متطفل، مر جزافا على المقالة، هذا الكاتب وما يفعله إنما يفعله كصحافي له ارتباطات ومشاغل هي الصلة وهي خيط التواصل بينه وبين الجمهور، إن هذا كان سائدا في الثقافة العربية بوصفه ملكة واحدة وأداة واحدة وهما واحدا فلا يكون الصحافي إلا حاملا لسلة الأدب وفنونه كان يكتب نقدا في الرواية أو كان يفصل في مذاهب الآداب من صوفية وسريالية أو محافظة وحديثة - شرقية وغربية - سلة تجعل الصحافي مطلوبا أكثر بحيث مساحات أنو جادة وخرائط انتشاره أو موهوبا أكثر بحكم اطلاعاته ومطالعاته وانكبابه على لملمة كل التفاصيل وجر القارئ إلى دائرة التذوق والإحساس بالكلمة.. ليس هذا الكلام في معرض الحديث عن زمان غابر انقضى.. بل هو واجب ما يحدث بين مؤسستين يفترض بينهما التكامل والتمام بلا انفصالية أو قطيعة.. وعليه أقول بصيغة جزم بائنة، لن يكون الكاتب إلا صحافيا يميلانه للانخراط في الحياة العامة وقضاياها ولن يكون الصحافي إلا الكاتب الذي يقدر على دور الوسيط النابض والقوة الحية الخلاقة التي تجسر الفجوات وترمم الأبنية والبنى، أقصد المجتمع الواسع بفعالياته.. في العنوان الآنف ذكرت لفظة بؤس وتقصدت عمدا المؤسسة الصحفية وأكثر ما تقصدته الوضع الصحفي عندنا في الجزائر فلا زالت المؤسسة تواصل انحدارها في تعاطيها مع المادة الثقافية والأدبية يأتي الصحفي بالأخبار ويشرح ما يصدر عن الوكالات، ثم يأتي كتاب افتتاحيات بعضهم بالعربية وبعضهم بالفرنسية ولهم السبق في الظهور المنتظم كونهم أكثر صلة بجمهورهم ولهم جمهور خاص تواصلي وكلاسيكي كما لهم جمهور عابر عرضي مأخوذ بالإثارة أو بموضوعات خاصة ولا يمكن من خلال ذلك فرز المعنى من الثقافة في جرائد اجتماعية وعامة سياسية وفنية، فهذا المعنى لا يوجد إلا إذا تعلق الأمر بتغطية مقتضبة لنشاط أو محاورة مع مفكر زار الجزائر أو خبر يتعلق بجائزة محترمة نالها قلم أكاديمي أو غير أكاديمي. إن فكرة الثقافة في المجلة الجزائرية والمجلات في الجزائر خاصة المتخصصة لا تستطيع أن تتجاوز عقدة الرقم 3 وكذلك في الجريدة اليومية والأسبوعية هذه الفكرة المرعبة أو غيرها غير مبرمجة أو هي عائشة للأوهام كما يعتقد البعض يمكن تسريب الرأي الذي يوافق التوجهات أو المذهب أو المعتقد السائد... هذا البؤس الصحفي يشتغل بسرعة فائقة بسرعة الضوء ولا يتعلق فقط بجريدة عادية ويمكن أن تحترم على الأقل في حدود مهنيتها بل في الجزائر التي تخصصت في السحر بل والرقى والإصابات بالعين والشظية فهي أكثر الجزائر الناقلة والمنقولة لفيروس-اللاثقافية- في المجتمع وحتى مهنيا يتعذر وصفتها بالصحافة تفرغ المجال العام من حيويته ومن جديته لاحظ كيف تشتغل على الفتاوى وعلى تدمير التقوى كما على حرب وتخلق القارئ المشعوذ الذي لا يحصل على المعرفة وعلى الثقافة وعلى اللغة وعلى الأسلوب بل يحصل فقط على الاستسلامية وعلى الضعف المبثوث فيه من الجهات الأربعة ويمكن إبداء الخوف من أكثر إذا كانت هذه الجرائد ستنشر أكثر باللغة العربية هذا التسلل الواضح الذي تقع فيه المؤسسة الصحفية يجب أن ندرك مخاطره اليوم ويجب أن تتساءل المؤسسة عن قرائها وماذا تريد بقارئها. إذا كان الغرض الدائم لدينا جميعا كفعاليات اجتماعية في الاقتصاد وفي الثقافة وفي الإعلام هو أن تعرض بضائع على الناس ونحصل على زبائن جيدين ويدفعون أكثر وإذا كانوا يدفعون أكثر فلما لا نقدم لهم أشياء جيدة ومعقولة وليس بالضرورة أن تكون نخبوية... عودة قليلة إلى الوراء إلى الثمانينيات وصولا عند أو التسعينيات كانت المؤسسة بخير يقول في هذا المعنى الصحافة رصينة رغم أنها أحادية الثقافة تتضمن جدوا ما العلم ينفرد بصفحة دائمة أو منتظمة والأقلام تعبر عن مرحلتها الأيديولوجية بالطبع لنا مآخذ كثيرة على تلك المرحلة غير أننا اليوم نجد أنفسنا أمام مأسات أكبر ومآخذ أكبر ومخاطرة تزداد من انهيار شيء اسمه الثقافة في عالمنا وفي يومياتنا.. إن الأدب إذ هو تخلى عن تعاليه واندمج من الهوامش واشتغل على كل الحقول وأمن بضرورة الصحافة في الحياة العامة يمثل ذلك امكانات جديدة تستعيد من خلالها التجربة عندنا صورة الصحافة الجيدة والمقتدرة والقابلة للتصدير والمقروءة من لدن المتابعين والجانب وأصحاب الاهتمامات المختلفة. في صفحات - الشباب - في جرائد النهار اللبنانية والسفير اللبنانية والمستقبل اللبنانية وكذلك جريدتي الحياة والشرق الأوسط، يتقدم الكثير من الكتاب إلى العمل الروائي وإلى النقد المسرحي والنقد السينمائي من خلال التجربة الكاتبة عن موضوعات تتعلق بالشريحة وبالطبقة والجهة وبالطائفة، فإن هؤلاء مزاولين للعمل الصحفي ليس لهم إلا إرادات خلق إبداع بدأه الآباء، إن المران الذي يمارسه باستمرار العملية الكتابية يكسب أصحابه طموحات تجاوز ومغايرة وتحضي.. خدمة جليلة إذن تقدمها الصحافة الجيدة للأدب في أن ينخرج منها وعنها كتاب مقتدرون يقدرون على فتح الموضوعات وتجديد اللغة وابتكار الأساليب وحيث هي اللحظة المثالية لدرء البؤس عن مؤسستين يشكلان اللحمة والاكتمال والانبثاق. إن الأدب كأشكال وفنون مختلفة فرصته الوحيدة كي ينبعث وكي يشكل جمهوره ورأيه العام لا تكون فرصته هذه إلا عبر الصحافة وعبر الصحافة وحدها يمكن خلق مساحات داخل المجتمع إطلاقا لا يمكن للأدب أن يحدث فعله التاريخي ولأن يسجل لمصلحته خروقات ذات مستوى وشأن واعتبارية دون الصحافة. تحدثت عن الثقافة وأفرطت المجال والنظم وأغلب الكلمات لم أعنيه بالأدب ولماذا لم يدافع هذا الأخير عن نفسه عن مساحات يستغلها عن هوامش تتاح له وعن محاولات يقاوم بها التعثرات حتى لا يطلب من الصحافة أن تخدمه بوصفها راهنية محكومة بظروفها وشروطها وشروط القائمين عليها أو القائمين من أجلها فثمة نقد مزدوج يجب أن يوجه إلى الحقلين واللحظة أراني أنقد وألوم الكثير من الأعمال الأدبية التي تكتب بطريقة غير مبالية بنبض اليومي وحرارته فيبدو حتى الأدب أو بعضه متعال وامتثالي وغير صالح لأن يقرأه القارئ الضمني المجهول الذي يصطدم عادة بالأدب ويجتزح لغته ويعشق الأسلوب والطريقة أو الكاتب أو الشكل على النحو الابتدائي ليصير هذا القارئ قارئ متذوق منصت للنداءات ومرهف في حساسيته..