يعتقدُ من يوصفون بالكتّاب والمثقّفين أنَّ عدمَ الخوض في السجالات السياسية والاجتماعية، نوع منَ النأي بالذات عن سفاسف الأمور، حفاظا على "بكارتهم" المكتسبة منَ التقادم في الصمت؛ فعدمُ اتخاذ مواقفَ واضحة من مسائل سياسية مصيرية وظواهر اجتماعية مدمّرة، يضمن لهم الحيادَ، باعتباره شرطا من شروط الزواج العرفي بالكتابة وقداستها الرمزية. وتلك مغالطة كبيرة، تعكسُ إحدى الحقيقتين: فإمّا أنَّ هذه الفصيلة من "الكتبة" جبانة بامتياز، وتنتظر أن تذهب العاصفة ويتّضحُ مسارُ الريح للالتحاق في الوقت المناسب بال "قطيع"، وهنا تفقدُ تماما صفتها الإبداعية، وإمّا أنّها لا تعي ولا تشعر تماما بما يتفاعل حولها من أحداث وتحوّلات وصراعات، وهي بذلك غير جديرة بالصفة، ولا فرقَ بالنتيجة بينها وبين بائعي الخضر والفواكه و«الكتبة" العموميين أمام دور القضاء. عندما اتّخذ موقفا واضحا من انقلاب التاسع عشر جوان 1965، لم يُنقص ذلك من قيمة الكاتب الجزائريّ الكبير الطاهر وطار، رحمةُ الله عليه، بل أكسبه احتراما لدى خصومه السياسيين، ومقروئية لدى فئات واسعة في المجتمع، دفعَ خلالها ضريبة الموقف بالإحالة على التقاعد وهو في ال 45 منَ العمر. وعندما عبّرَ عن رفضه "وقفَ المسار الانتخابي" في 1991، ازداد الخصومُ منَ الطرفين المتصارعين على السلطة (إسلاميون وعلمانيون)، احتراما للرجل، وكانت تُعتبرُ حدثا ثقافيا مميّزا كلُّ رواية تصدر له، وأيُّ رأي يصرّح به. ولم يكن "جبانا" ولم يكن "محايدا"، لأنه لا ينظر إلى الأشياء من "خرم" ابرة، ولا يلجأُ لابن سيرين لتأويل "مناماته". كانَ يقول بفخر واعتزاز: أنا كاتب سياسيّ، لي موقف ورأي ورؤيا، ولي كذلك مشروع ثقافيّ كبير، ومشروعُ كتابة. ينطبقُ الكلامُ على مثقّفين ومفكّرين وكتاب جزائريين كبار من قبيل كاتب ياسين ومولود معمري والطاهر جاووت ومفدي زكريا وجيلالي اليابس ومحمد بوخبزة ومالك ابن نبيّ ومحمّد الميلي، وعلى مسرحيين من قبيل علولة ومجوبي، وسينمائيين من مصطفى بديع إلى رشيد بوشارب، إلى رموز الفنّ الملتزم من عيار معطوب الوناس وإيدير، وصولا إلى "بعزيز". هؤلاء ممّن تستحضرهم ذاكرتي الانتقائية، لم يعتبروا أبدا أنّ صفتهم "الفنية"، و«الفكرية" تمنعهم منَ الخوض في الجدال وإبداء الرأي والتخندق في اليمين أو اليسار أو في الوسط المتكالبة عليه كلّ الجهات. أمس ما قبلَ الأوّل كان لي تدخّل على قناة "المغاربية" في البرنامج "الحدث المغاربي"، تعليقا على تصريح السيّد مولود حمروش، الذي نطقَ بعد أقلَّ من 48 ساعة من سؤال "الجزائر نيوز" على صفحتها الأولى عن سرّ صمته، فهاتفني كاتب عموميٌّ أصدرَ في زمن الحكم الراشد "عشرات" المؤلفات: "كان واضحا يا صديقي أنّك اتّخذتَ موقفا لصالح "فلان" على حساب "فلتان" وهذا مخلّ بالحيادية المطلوبة لدى "الكاتب". قلت: الصحفيُّ في نقل الوقائع هو المطلوب منه التزام الحياد، أمّا "الكاتب" إذا طُلبَ رأيه، وجبَ عليه اتخاذُ موقف منَ الأحداث. قال: لكنّك كاتب، ومن المفروض أن تنأى بنفسك عن هذه السجالات العقيمة. قلت: إنَّ العقمَ في هذه البلاد هو الاستمرارُ في الوجود لكائنات "وسطية" مثلك؛ لا هي قادرة على فهم واستيعاب ما يحدثُ، ولا هي جديرة باتخاذ أيّ موقف من الأحداث والتطورات، ولو كنتُ صاحبَ قرار لأمرتُ بعقابك "فلقة" على مؤخرتك النتنة، واتهامك صراحة بجريمة الاخلال والتهرّب "الضريبيّ" منَ التعاطي مع القضايا الوطنية في الأوقات العصيبة. قال: "أعتقدُ أنّك أسرفتَ في شرب الجعّة، ولا تفهمُ خوفي عليك". قلتُ: أنا من يخاف على "جبان" مثلك اليوم، وعلى نشر هذه الثقافة السخيفة في أجيال الجزائر الصاعدة. في المؤتمر الثاني لجمعية "الجاحظية" ديسمبر منَ العام 1992، عيّنني بكلّ ديمقراطية "عمّي الطاهر"/ الطاهر وطار، أمينا عاما مساعدا للجمعية وأنا في 23 منَ العمر وقال لي بصريح العبارة: "إذا انتميتَ فلا تخن، وإذا كتبتَ فلا تُهادن، وإذا طُلبَ منك أن تصمتَ فاصرخ... حينها فقط تصيرُ جديرا بمكانتك الجديدة ككاتب محترم، يُصغي إلى الجميع، وينبحُ في وجه من يشاء. لن تشعر بالحرج أمام من أطعمك، لأنّك انتزعتَ حقّك المشروع في النباح كما في المأكل. "عنابة تعدل الحالة". ومن يومها تعلّمتُ أنَّ عدم الانخراط في "التخلاط"، كمن "يضرط" تحت الماء ويخجل من الروائح البغيضة غير المتسرّبة من وهم "الضراط". رحمك الله عمّي الطاهر، أنا الآنَ أستلهمُ من ينابيعك الخالدة.