يعدم أن يتجدد الفكر السياسي الجزائري في لحظته هذه إن على مستواه السوسيولوجي وإن على متنه العقائدي وإن على بنياته الهيكلية، إنه فكر مطروح على الساحة بوصفات قديمة ومعايشات أكل عليها الدهر وشرب وتنشف منها البحر فما عاد مالحا أجاجا يصبو إلى النهوض والفتوة والعزم.. تؤدي حصيلة القراءات والتأويلات في الموضوع الوطني بتنوع مداخله ومنازعه، وتعدد مشاربه ومآلاته إلى فكر أزمة حقيقي ليس له عنوان، فلا يستقر على صيغة ولا يتحمل المخرج الوحيد ولا يتفتّح على أسئلة وجدالات ولا يعود إلى منفعة بائنة، من الهوية وعنها، عن تراكيبها الحاذقة وحرقاتها التي لا تبلى ببلاءات الزمن، عن ثنائية عروبة وإسلام العنيفتين اللتين اتخذتا موقع المركز الثابت والميثيولوجي، عن العبث الاقتصادي وتأرجحات الخيارات المبنية على العبط والتقليد واللاّتشريع واللااستقرار.. ونافل القول أن فكر الأزمة في أزمة، عضوية داخلية جوانية، أو مستقطبة من خارج، مجذوبة إلى عوامل الهبوط والخور والوهن، عقم في الساحة، عقم يضرب بالأطناب، الضحالات والبشاعة، الرداءة والنثر السياسي الملغم، الإهدار والمهدورين، الواقعة السياسية وهي تفتقد إلى تحليل وتركيب وبناء وإعادة، حالنا من حال الفاجعة لا المحنة، الكارثية المستديمة والمستدامة، التوصيف الماثل المقارب لنسخة رديئة لفيلم من أفلام المقاولات والجمهور عايز كده بالتعبير المصري. لقد كتب يوما نور الدين بوكروح، ومثله كتب غازي حيدوسي، واسماعيل ومزيان، وسليمان زغيدور وسامي ناير، وأحمد رواجية، ونور الدين طوالبي وعبد القادر جغلول وعمار بلحسن وعلي الكنز، كثيرون غير معدودين على الأصابع ولا على الذاكرة، كتبوا كلهم، حلّلوا بالحق وأدحضوا بالقسطاس المستقيم مقاربات السلطة التي تقوم على التسييس والمزايدة والمراوغة في المكان والمراوحة في الزمان، أبجد السلطة وألفها في أن تظل ممسكة بخناق مجتمع راكد، مستسلم لوهدة الماضي وقناعة الهوية ودوغما الوطنية المتراجعة، يعكس ذلك هذه المهاترات التي تتسع فلا تضيق أبدا، وهذه النخب القصيرة في أمد عطائها والقصيرة في ذات اليد والتدبير فلا تساكن إلا الأشباح ولا تقرأ إلا مراسلات الكولونيل ولا تديح إلا الخطب المسجوعة عن شهامة كانت وأنفه كانت وقوموية كانت... لقد خرجنا من حقبة التأسيس والجمهورية والفعل التاريخي إلى غيابات الجب اليوسفي والخداع وبيع الغرر وسرقة النور الخافت ثم تعويضه بالدجل والسفسطة والتكاذب. هل نحن اليوم نلعب الروليت، الباكارا، البوكر، الجوكر، أم الدومينو، أم الشطرنج أم تنس الطاولة، إنها مفردات علية القوم من ساستنا الكاشفين والمكشوفين والبائنين والمتستّرين، القمار مع، القمار في، القمار على، المهم أن يعج الكازينو بالناس والكأس، بالشراب وخبائث الباطن، وبالأوراق المدمجة حيث الأصلي منها مخفي والمنسوخ يدرج في قائمة الأوائل المتقدمين.. إن الورقة التي قدمها السوسيولوجي عمار بلحسن إلى جامعة "رانجس" نيوجرسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية وهي ورقة بعيدة من حيث المناسبة والمأتى التاريخيين، ورقته حول المشروعية، التوترات الثقافية، وحول الدولة والثقافة في الجزائر وكان مناط ذلك موضوعا مهما، بناء الدولة في المجتمعات العربية المنتجة للنفط.. إن تاريخ الورقة وملابساتها هو عام 1985، أي هي المنتصف من الوعي الثمانيني لأصغر جيل استقلالي لكنها مشغولة بعناية فائقة وتدبّر نادر المثال في البحث السوسيولوجي السياسي الراصد لتوترات المجتمع وترددّات الدولة وأجهزتها، إلى اليوم ومذ الثمانينيات -حيث طفولتي- ويلي ذلك يفاع التسعينيات، أستخدم مرجعيات عديدة في تبصر معاني الحال الجزائري وغمته الميؤوس منها، أذهب مذاهب على وسعها تضيق بي فلا أفهم وأتنصل عن المعطى الأسطوري الذي يغرقني من الأسيّة وظلم النفس لنفسي، وكل ذلك من أجل الفهم، التأسّس في التاريخ والاندماج فيه حتى لا يزهق الحق على جنبات الباطل وحتى لا يحول النهر إلى ميعاد الجفاف واليباس، إنه عمق عمار بلحسن الواقف على شغله البحثي بتوأدة ومهل وصارم جرأة لا تلين، فنصوصه المتفلتة من عقال أكاديميا مدرسية منحوتة من المقاربات الاستعمارية ومن اتجاه الحوليات، بل هي تصب في المصبّ الوطني الخالص مأخوذة بسحر فرانز فانون، وعبد الله العروي ومالك بن نبي،، أقرأ ورقته المشروعية والتوترات كل مرة، وهذه المرات ملزمة عندي لزام التميمة والترافق والمقارنة، فعلي الكنز يكتب، وناصر جابي يكتب وجماعة الكراسك تكتب والكرياد وجماعة نقد تكتب، وبومدين بوزيد يكتب، ولذلك لا ألبث أن أستأنس مشيدا ضاما الصوت والقلم والخواطر اللواعج لهذا الغائب السوسيولوجي الذي يلحن على طريقه لحن السياسة على وتر الأدب ولحن النثر السياسي رائقا في ملح وطرائف السوسيولوجي والاجتماعوي، على قلة ما نعثر عليه من كتاباته الدقيقة المعرفية فإن عمار بلحسن هو ما نحتاجه للاستزادة والتنوير والباعث من أجل مراكمة فكر الأزمة ومراجعاته،، فالمسبوقين بالذكر وممن لم يذكروا أجروا أعمالهم وتحليلاتهم على المشمولات والجزئيات غير أن بعضا منهم لم يكن له هذا الاقتدار في التخريج والتوصيف أو الحفر والاستبطان أو التكييف وتوصيل العناصر ببعضها إن هي تروم التاريخ أو الهوية أو الدولة أو الجغرافيا أو الدين أو الجهويات والعصبيّات. يتخذ بحث عمار بلحسن مقاما أسمى في المدوّنة الفكرية الجزائرية بشقيها -السياسي والإجتماعي- فضلا عن الثقافي أو الثقافوي. إن أزماتنا ليست مؤامرات وتربصات أعداء، ليست تصاريف الدهر ومحن الرب، ليست هي إحن الدنيا وعواقب الدنى، إنها تراكم واجتماع عناصر وتوحدات ظروف وتلاقيات أجيال ومتتاليات مواقف، إذ أرهصتها الثورة النوفمبرية ببيان مخاطر حمل السلاح إن لم يكن ذلك رادا للفرقة وعاصما لداء المنابذة والاصطفاء، فأي قراءة هذه حادت عن المعطى الثوري واستطاعت أن تخرج علينا بحضارية المشروع الوطني الجزائري الدولتي والمجتمعي... ليست الجزائر في جلاء تكونها وبروز رمزيتها إلا حماسة الطموح التحرري وخالص الاندفاع ضد المؤسسة الإستعمارية بمعداتها الهادرة وبشرها السفاحين، أي حركة وطنية تحررية تبغي بناء النفس والدولة، دولة عصرية تهيئ لمجتمع جديد يتواشج ويتعاضد مع علاقات اجتماعية وسياسية عمل المحتل الفرنسي على إبادة وجدانه القومي، لسانه المبين، فكره العربي الأصلاني، نقاء منزعه البربري الموغل في صولات القدم والتاريخية، فحسب عمار نشأت الفكرة السياسية الرسمية لا ككيان منفعي أداتي به تحقق غايات الأمة ومن أجله تتراص القيم والرغبات جنبا إلى جنب بل على أنقاض الفكر الإستعماري الإرهابي الذي كان يهدف إلى الإزالة والمحو والتحطيم، آية ذلك إنجماع الأحرار والوطنيين ودعاة الاستقلال على هذا الإطار إلى يوم الناس هذا، أي إطار انبعاث الأمة ونهضتها، صلاحها وصلاحيتها، مختاراتها التنموية ومطمحها الرأسمالي- الرأسمالية لا كمذهب. إن فكرة الدفاع عن حياض الوطن مذ ماسينيسا تأخذ بلباب الجزائريين فهم يهيمون في واديها المقدس، يتوضأون بمائها الطاهر وهي موئل وطنيتهم الحقة وباعث دولتهم الحاضرة والقديمة، ويؤدي إلى امتعاضهم من مشروعية أخرى لقيطة محمولة على ظهر باخرة قادمة من البحر أو ظهر إبل سار بالليل متهاديا قاصدا أرض الأميرين عبد القادر وخالد، أرض مصالي وفرحات، أرض بن مهيدي وزابانا، إنه سؤال المشروعية لا الشرعية فقط، سؤال العصر لا سؤال الماضي والماضوية. قامت الدولة الوطنية على مشروع سياسي وحّد الأبعاد ووظف الرموز وتماهى مع المجتمع، أي هي قامت على وحدانية المذهب العقائدي والديني والتراث الثقافي والتضامن العربي والمسألة الاجتماعية، وليس في ذلك إلا حيلة في التمدد السلطوي وإفراغ المجتمع في الوعاء المؤسساتي الرسمي، تذويب الطاقة الفردية والجماعية لحساب التمركز الأقلي، أي لحساب النمو تكلاتورا والأوليغارشيات... يفكك الباحث المفكر اللغم الموقوت كأنه اليوم، في لحظتنا الجزائرية هذه المفعمة بالارتياب والانفعال والخوف من الصدع بالحقيقة رغم أن الحقيقة حمالة أوجه.... لقد ربطت الأجهزة الدولتية السكان وآراءهم بالرباط نفسه إذ لا مصائر في "الخارج" لا أمل، لا مستقبل ولا أفق إلا حيث يكون البحر هو بحر السلطة والحوت هو حوت السلطة، إن كل عقود التنمية التي فاتت والتي مازالت قيد الخطابات وقيد التلفزيون الرسمي تذهب إلى المشروعية والشرعنة كما هو جار ويعهد عليه ويتعارف، "التأميمات"، "توسيع البنى الاقتصادية"، تسريع الحراك الإجتماعي وتكثيفه، نشر وإذاعة تصورات ثقافية عمومية تحديثية وتغييرية، تدخل مكثف في الميدان والصناعة الثقافية، توحيد وتوجيه الممارسات النقابية، كل ذلك كما يسهب عمار بلحسن يمثل في منظور الاجتماع السياسي ذوبان المجتمع في الدولة... تدرس تفكيرات كهذه وفي وقتنا الذهبي هذا سبل البحث مع المجموعة الوطنية عن طرائف الخلاص من جحيم الاختلالات بالنظر إلى الأفق، أليس الأفق بقريب... عبد الوهاب معوشي