ما بلغت الأشياء والوقائع مبلغها وما بلغ سيلها المدرار هذا الزبى الطافح الطاغ إلا في هذا الوطن، إنه التعبير اللاّئق الأنسب مستعارا من شاعر لبنان المهبول “يحيى جابر"، الوطن صار كازينو وصرت أنا المقامر، ما نفعت القراءات والتوليفات التي ستتغذى من الجيوستراتيجي إلى السوسيولوجي إلى الثقافي إلى الديني والميثيولوجي.. بل كأنها المانيفست حول السقوط، حول الموتة الأخيرة، يومئذ لا قرار ولا مكان أمين مكين، وكذالكم يأتي التوصيف للحالة الجزائرية ومحاولة الدنو والقرب بعين فاحصة وقلب يجزع وعقل يخشع متبصرا لا يرتدّ عنه طرفه وفؤاده هواه “المقامرة الجزائرية"، أزمة تجربة وتأملات كتاب جريء لعبد الرحمان الحاج الناصر يتقدم به على مساحة هامة من الفكر الوطني السياسي النقدي المغيب، كتابه هذا هو في الغيبة والغياب، غياب لكل شيء، لكل العناصر المفهومية التي تبسط أذرعها لفتح مغاليق رحلة ودّعت زمنها الكرونولوجي لكن زمنها الرمزي باقٍ يلعب على الأطراف والمحاوروالأقاليم، “الوعي بالذات هو المغيب في النقاش السياسي في الجزائر، فالتعرية التراكمية التي نعيشها لا تتجلى في مجالات الهندسة الصناعية، والتسيير والحكامة فحسب، بل أيضا في عجز عدد من الجزائريين عن الإحساس باحترام الذات، واحترام الآخرين إذا وعن التعبير عن ذلك".. إنها جملة أسباب دفعت محافظ البنك المركزي الجزائري في فترة الرعونة والطيش السياسي والذهني ما بين 1989 1992 “عبد الرحمن الحاج الناصر" إلى كتابة نصه المقامر، المغامر الذاهب صوبا نحو كل باب وكل مغارة وكل مدخل.. حسنا بدءا وبكل شجاعة، إن الفساد هو موئل الوطن، مكانه الفسيح حيث يرتع الرائعون وحيث سيقوم هؤلاء برفض التعاطي الديمقراطي والإندغام في ديناميكية الحوار الوطني المناوئ لكل الأشكال الريعية والأساطير المؤسّسة للأحادية والاعتصام بالثورة والتمسّك بأزلام التاريخ في غير ما نقد ومراجعة وتصحيح وسجالية، إن مقامرة عبد الرحمن الحاج الناصر هي مقامرة إيجابية، صدوقة، طويلة النفس ومعطوفة على تجربته الرائدة في الإدارة والتسيير، في آليات التحكم المالي والبنكي، وفي عبقريته التحليلية التي ما ألغت حلقة ولا عنصرا ولا فاصلة من فواصل التشكيل الوطني الحيّ، الذي ألفت الدولة الوطنية -اللاّمتبلورة على الصياغة النهائية- مسحه ومسح كل الهوامش الجادة والتي تقوم لتخصيب جزائر جديدة ترمق الآتي، مادّة نحو الأفق نظرة اليقين المتوتّب الذي يتمثّل صروف الدهر ومطارح الصعاب إذ هو يدحرها نحو الأسفل الأسفل.. شجاعة المقامرة هي شجاعة كتاب وكاتبه ابن امزاب، ابن الحضارة الإباضية التي اعتادت الصمود ولم تستكن أو تخنع أمام الفيضانات والطوفانات. «ولدت في حي سوسطارة بقصبة الجزائر وعلى الرغم من انتقالنا المبكر إلى حي العناصر، فقد بقيت ذهنيا ابن القصبة وإلى غاية دخولي المدرسة سنة 1957، فاكتشفت عندها أنني لم أكن في نظر الآخرين (دزيري) لكن (امزابي) اكتشفت بنفس الطريقة أن في المدرسة فرنسيين وأيضا قبائل وعربا وشاوية". بالنسبة لصاحب هذا المصنف الفريد وضمن نثرنا السوسيوسياسي أن السيرة الطفولية هي نفسها الوجع.. هذا الوجع الخطر الذي ينال من أحشاء الداخل ما ينال، سيرة انشطار وانفصام مكلف يبغي، يتعدّى، يسبغ على، يطبق على، أية انفصامية تزيد وتقتحم الروح والشعور، فردانيتها وجمعيتها “فأن يكون المرء (امزابي) يعني بالضرورة أن يكون عاملا في بقالة، وأن يرتدي ذلك السروال الفضفاض الغريب مخافة أن لا يكون هو ثوب الحداثة والرفاه والعصر، لكنه ويا للمفارقة هو الزي العربي الإسلامي المحتشم". ليست المقامرة الكتابية من هذا النوع أبدا هي مربط الحسم فقط، لأنها تتوادد وتتراص مع النظري والتقني والتكنوقراطي، بل هي غمار وانغمار في كل شيء، بحر الماضي ومنبعه، نوستالجيا البلاغة التي خادعنا بها الحاج راوغانا كبهلوان محبب، شاغلنا بفكره العبقري، برهافته الاقتصادية وصارم مدلوله المعرفي ثم ها هو ينقض علينا بهذا النص الشغوف المعمول بعناية كتاب كبار يبحثون عن استحقاق قراء جادين، قراء غير شعبويين، لا يتلعثمون أمام هذا اللفيف من قذائف الحق وصداع الحقيقة، ليس في المقامرة الجزائرية تقنية واحدة، ملمح واحد، خيط أبيض واحد من خيوط حالكة سوداء، إن “الحاج" عرف كيف ومن أين تؤكل كتف الجزائريين المتوائمين، حاليا، حول الخطاب الجديد من أجل التغيير، إنه الذات على ما يفسّر ويقول الفرد، المرء، الكائن، الكينونة، الرغبة، الطموح، مواعدة المستقبل، ثم من الماضي سحرة المخفي، ندرة خزانته، نوادره وطيب مسكه، ريح الماضي ورائحته “سادت عائلتي أجواء كبيرة مفعمة بالوطنية، تتغذى بنقاشات كانت تدار في الصالون الذي كان يرتاده أحمد بودا، سعد دحلب، أعضاء من جمعية العلماء، بالإضافة إلى كوني، في نفس الوقت، إبنا لحفيد الشيخ اطفيش، العالم الإباضي وحفيدا لآخر قاضٍ إباضي في مدينة قسنطينة قبل سقوطها في يد الفرنسيين، كان أبي كاتب مقالات في جريدة (ألجيري ريبوليكان) كما مفدي زكريا مؤلف قسّما هو أحد أبناء عمومتي"، إنه واجبي وفضولي يمليان عليّ هذا النسق في تناول “المقامرة الجزائرية" لأن الكتاب به هذا التحرش المسكوت عنه، اللامقول، المنسي، المهمش، المطمور تحت طبقات تراب هذا الوطن المفدّى المغامر به الممسوس بمس من الشياطين الزبائنية النفطية التي لم تتورع في إهلاك المحصول الثوري الوطني الشهادي كما باقي المحاصيل والزاوع في الإنسان وطاقته، في نخب الوطن المهاجرين في الأدمغة، المسجونين بكافة أنواع وصنوف السجون، لقد راهق ابن حضارة امزاب في مدينة الجزائر، السنة كانت ذات 1964، وحيث الحلم الجزائري قد ران على نفوس الناشئة المراهقين من أترابه من أبناء ثانوية الإدريسي، هناك هناك، نجوم اليسار الدوليين، أساتذة لهم الامتياز، بيد أن لهم أسلوب الحقرة وغمط الحق، العلامة ليست لك، تكفيك 15/20 حسب أستاذ الفرنسية والفلسفة، لأن لمزابي الصغير، الرجعي بالكاد يستحيل عليه أن يحرز هذا التفوق ويتوحش على الوحوش من مفترسي الهوية والوطن والنفط ومصادري اللسان، لساننا الجمعي الأمازيغي، الشاوي، التارقي، لمزابي، العاصمي، إنني الممضي بحوافري أدناه، لست لمزابي ابن البقال، أنا ابن هذا الصحافي الذي يكتب في جريدة “ألجي ريبوبليكا" حفيد الشيخ اطفيش ومن صلب هذه العائلة خرج هذا الشاعر الكبير، شاعر القامة والسؤدد والرفاعة مفدي زكريا مالئا الدنيا وشاغلا الورى... كتب هذا المصنف على سابقة لم تكن، التحليل والإحصاء، التاريخ والتأويل، الهوية وعمى الانتماء، التسيير الظالم وجشع المنهوبية والاكتناز، كتاب في السلوك هو، معايبه ومثالبه، إنه تقني رياضي سحري وينطوي على فخاخ عديدة أهمها ما يسمى في عالم القمار ب “دار الربح" القائمة على تحكم أكبر في الاحتمالات، أي تلك التي تكون أكثر دقة من تلك المستعملة عند محترفي المراهنة، إنها مسألة تهوس بأفئدة لاعبين خبثاء مهرة في تدوير اللعبة وترك الصدف، دار الربح التي هي البنك وحيث لا يقوم شاطر الرهان مقام سارق صغير يختلس فلسا كي يهرب ثم يطارده البوليس متعقبا خطاه بوصفه السارق الحقيقي لبيت مال المسلمين والنصارى، كلا المهارة في منطوق السلوك المؤسساتي التاريخي الذي انبرى يفسره لنا عبد الرحمن الحاج الناصر هو في الاستيلاء الأخير على البنك كله، بمسحه، بإفراغه وإفراغ محتوياته، أوراق ومعاملات وصفقات وبيوع ومشاريع وعقود، تدبير ذلك في صناعة الحيل، وليس من حيلة غير السلطة في منزعها الفاشي، الفاشيستي، تغيير القوانين، تحريك البيادق، صياغة الحملات الشعبية الداعمة تلك التي يخرج فيها الشعب الأبي بعفوية وسلاسة ولماذا قانون ريشام، الرداءة جيدة إذا لم تخل مكانها للطيب أو القبيح، للنافع الأدوم وحيث أن لا الصعلكة أو البلطجة بالتعبير المصري الرائع هو الخلاص الأخير لنظام يتماوت بين أحضان الملكين منكر ونكير. التراكم والاستباق والتحكيم، مصطلحات ثلاث شغّل بها مخه مختص الرياضيات، محافظ البنك المركزي الجزائري، فهي تمكن المجتمع من أن يرى نفسه في سلطة قديرة تحكمه وفق القراءة الأنثروبولوجية والسوسيولوجية المطلوبة، وفق المشروع الكلي الهادف إلى تنمية مستدامة ولا تحصل الثانية إلا بالأولى، وهما تعوزان أبدا ودائما إلى هذا السحر والفتنة أي إلى الحرية، أبعد، أبعد من عالم الكازينو وروّاده... عبد الوهاب معوشي