الكتابة هم... حقيقة مملوءة بمدلولاتها ..ولكنها حقيقة لا تدركها العقول ولا تنطق بها الألسن إلا بعد تراكم قاس للتجارب الإبداعية والحياتية. انطباع يراود المشاعر والأحاسيس وخلاصة أخيرة تكشف عن نفسها قبل لحظة الانتهاء الكلي..ولا يمكن أن ترقى الكتابة حتى تكون هما إلا إذا تمكنت من ألذات وصارت جزءا متناسقا وأجزائها ..جزء نابض لا نستطيع صبرا على وخزاته ..ولا أن نقفز فوقه إغفالا له وتجاوزا لشقاوته المفرطة ...الكتابة حضور صاخب ..ووجود طاغ لا نجد أمامه إلا الاعتراف به متحملين عواقبه . وهي فوق ذاك لها اطراد دائم ..وامتلاء مستبد يأكل فراغات العقل والنفس ..حتى يكاد أن يتشابه علينا الكاتب والمكتوب . قد يبدو غريبا للوهلة الأولى إذا قلنا أن العلاقة التي تجمع الكاتب بنصه هي علاقة صراع ...نعم صراع لذيذ تشتهيه النفس ويطلبه العقل كلما أوغل الزمن في سيره زادت لذته كما تزيد قسوته ..مفارقة عجيبة تلك التي تخلقها الكتابة ..تؤاخي بين اللذة والألم لكأنهما شيء واحد ..وتحي النقيض بالنقيض..والأصل فيهما أن احدهما يقتل الأخر ... هكذا هي الكتابة موطن للاشتباه وساحة واسعة للتناقض ..هروب من الذات إلى الذات واعتزال للأخر في الأخر ..الكتابة صراع بين الإنسان وأشيائه التي يريد أن يشكلها فكرة منطلقة تتقمص حرفا جميلا . ما هوية تلك الحالة التي كأننا –في عز سطوتها – نسمع صوت نزع متوحش حينا...وصوت توسل ذليل حينا أخر من ذات جمعت أشيائها حتى اكتمل ظل النص فيها ..وهو يأبى الخروج ترعبه تشوهات العجلة وتثني عزمه تكسرات الحرف ..وفراغات الصمت ..وهي – الذات – تمنيه – في خوف- بالاكتمال تحت النور وبتجسم جميل خارجها ..تحاول إقناعه أن لميلاده ثورة يهابها الصمت . هذه الثورة التي تدمي ألذات ..وتترك تصادماتها خدوشا أبدية على جدرانها يعاودها النزيف في كل تجربة ليست افتعالا رومانسيا منها إنما هي اشد أنواع المواجهة قسوة ...فالكاتب لا تولد بداخله الأفكار لمجرد إرادته ذلك وهو لا يمتلك نواصي الحرف حتى يتصرف فيه كيفما شاء ...وإنما الحقيقة أن للمعاني دلال يصيب بالحيرة ..وكبرياء يصعب معه الإرضاء ...ابعد هذا نعتقد بأنه يقذف بأفكاره لمجرد اللهو والعبث ..بل انه في كل مرة يمارس قذفه هذا يسيخ السمع ..لعل صوتا بعيدا يجيب ..ما أشرس تلك الطعنة التي تهديها يد الصمت ...الصمت الذي لا يعني شيئا سوى حشوا للجرح بالجرح..الصمت الذي لا يعني إلا أن العدم له وجود مريع يقتله ويقتلك ..الصمت الذي لا يرشد عن غيابك فقط.. بل يرشد لأثار سحق متوحش لي. إننا لا نكتب لنحقق وجودنا..وإنما لنعرف أنك معنا, هنا فقط نحس أننا اثنان ..يمكن أن نفعل شيئا يخلدني ويخلدك .....هكذا هي الكتابة صراع ...وإثار بالوجود للآخر قبل أن تكون خلقا لوجود الأنا ...هل هناك أكرم من أن تهدي الوجود لغيرك قبل أن توجد نفسك ....لا اعتقد..! لماذا نكتب؟ هل هو فعل يعبر عن الذات ؟أم يعبر عن الغير ؟ أم هو محاولة لصناعة نسق فكري نرى فيه الصلاحية ليكون نهجا يؤخذ به ؟ ربما تكون الكتابة من اجل هذا كله ..ولكن أرقى المستويات هي تلك التي تتوجه فيها الكتابة إلي صناعة الأنساق الفكرية...وهي وإن كانت تولد وتقضي سحابة طفولتها في ساحات الذات إلا أن شعورها بالفتوة يحفزها لكسر الطوق والخروج إلى عالم تتعدد فيه الذوات وتتنوع ..الشيء الذي يهولها ..فمن المستحيل أن تحتوى هذا الكم ..وأن تلم بهذا التنوع ..إنها مرحلة أخرى تنفر إليها الكتابة ..مرحلة تحاول أن تجمع فيها اكبر كم ممكن من الذوات على تنوعها واختلافها ..هذه المرحلة هي صناعة النسق الفكري الخاص ...مرحلة بالغة الصعوبة و التعقيد ...تموت على أعتابها أقلام كثيرة....ولا ينفذ إليها إلا الثلة التي وعت معنى الكتابة أولا ثم معنى التمرد فيها ثانيا ...فالكاتب الذي يصل هذه المرحلة إنما هو في واقع الأمر حطم سجن كاتب سبقه ليسجن غيره ممن يلحق به ..وكم رأينا من شخصيات عاشت دهرها لا تتجاوز نسقا فكريا صممه غيرها ..حتى يظهر كاتب تكبر حاجة التمرد بداخله..ويعثر على المنافذ الني تخلصه من شراك غيره ...إن أولى بوادر التمرد هي البحث عن هذه المنافذ ..إنها ميزة يمتلكها الكاتب الحق و المبدع الأصيل ..أما العامة وكتاب الحالات النفسية ففكرة التمرد لا تخالط لهم بالا ..بل أنهم لا يشعرون حتى بالجدران المحيطة بهم ..وربما يكون هذا أفضل شيء يفعلونه.. لماذا نقرأ؟ القراءة ليست أداة لصناعة الثقافة بل هي أداة اختبار واختيار الثقافة ..و هي في جوهرها ثورة على ألذات المغيبة من إطارها النقدي لتنقلها من التلقي الصامت إلى التلقي الحركي ...وهي ليست ردة فعل للكتابة إنما هي فعل مستقل بداية بالتأمل ..عالم مواز لعالم الكتابة إن لم يكن أعلى منه درجة واسبق منه في التاريخ.وعندما تدخل القراءة مجال ردة الفعل –.. كما هو حاصل ألان – فإن حظوظ الإبداع تتضاءل. انسلاخ الوجود وقهر الفراغ لو تتبعنا ما قيل في الإبداع وتعريفه لسطرنا الصفحات الطوال دون أن نظفر بشيء ..وقد يجرنا الأمر إلى تعقيد اكبر وغموض أكثر فنقنع في الأخير بغنيمة الإياب ...ولأننا نريد تبسط الأمور لا تكثيف الضباب حولها ..ونزع الزوائد الني علقت بها .فإننا نقول إن الإبداع هو القدرة على الإضافة ..حالة غامضة متملصة من وجود سابق و قاهرة لعدم لاحق ..و الوجود السابق هو الأفكار والأساليب الني خبرتها الذات لو بقيت فيها لم تكن سوى كونا ذائبا في غيره..ومن هنا فإن الوجود السابق نعني به التقليد الذي إن استطاعت الذات كسره فإنما تقهر العدم وتبيد الفراغ بالإضافة .هذه الحالة الغامضة و العنيفة تعبر عن الشوق الإنساني للكمال ...وتمرد على الحدود الإنسانية ..الذات المبدعة تحاول الاتصاف بأجل الصفات الإلهية , القدرة على الإنشاء , للإبداع أصل سماوي برائحة إنسانية , ولعل هذه الظاهرة تختفي لتظهر كمقياس لتطور الأمم وتقدمها , فالأمم التي تنتاب أفرادها هذه الحالة هي الأمم الأكثر مشاركة في الحدث الإنساني من تلك التي تقنع بالأطر الموجود سلفا . إلا أن الإبداع في محاولة التملص من غيره و الاستقلال بكينونته لا يتخلى عن ثوابت تمثل المفاصل التي تشد هيكله العام ..فهو الشقي الذي يحسن التعبد في محراب هذه الثوابت لأنها نسبه الذي يعود إليه , وهويته التي تعزز من وجوده . حاولنا فيما سبق الاقتراب من ماهية الإبداع , وإن كنا نعلم أن حقيقته تجلببت المجهول وآثرت برقع الغموض حتى تظل صاحبة صون وعفاف فلا يطمع فيها كل شريد .إنما غاية للشرفاء القادرين على المغامرة.ولإن للإبداع نهاية تأخذ شكل نص يواجه به الكاتب نفسه وغيره فإننا أردنا ملامسة طرفا من هذا العالم الواسع . حديث في النص النص كائن حي يعيش بثنائية اللفظ والمعنى أو اللغة و الفكرة ..وغياب احد طرفي هذه الثنائية يتسبب في تشوه يعجز النص عن أداء وظيفته., إن أول ما يواجهك من النص هو اللغة التي تحاول أن تشتم نفحات الإبداع منها , فلا تجد إلا قدرة الكاتب على إعادة التشكيل ومقدار اقترابه من نفسية اللفظ . فاللغة مهما اتسعت تبقى موصوفة بالانتهاء , و الإبداع فيها هو القدرة على إعادة التشكيل . إلا إنه يبقى مرهونا في جمالياته , بل حتى في وجوده بالإبداع في الفكرة وتوليد المعنى, لذاك نجد أهل المعنى في تفوق دائم على المشتغلين بالزخرفات اللغوية و الاثارات اللفظية .بهذه المادية إنما يحقرون الفكرة وينفون عنها صفة الحياة و التكريم . اللذان يجب أن تعامل على أساسهما و إلا نفرت لتترك اللفظ مجرد طلل على سطر ميت. إذا كانت الفكرة بهذه الخطورة ,فان قيمة النص ترتفع كلما اقترب من الوصف الكامل لها ,و الاحتواء التام لعناصرها . و ليست النصوص لها القدرة على ذلك ..ولا الشجاعة في المواجهة و السبب يكمن في علاقة الكاتب بالمتلقي ومقدار ما يشكله هذا الأخير من تفكيره , وعلى ضوء هذا يمكن تقسيم النصوص إلى نص متخفي و نص عاري . النص المتخفي كثيرا ما ينزع المبدعون إلى الغموض, والتركيبات المعقدة, و الصيغ الصعبة , ترهق المتلقي في معرفة المراد منها , وحجتهم أنها نوع من التصوف , أو أنهم سبقوا أجيالهم في التفكير , و الحقيقة أن خوفا مستترا بداخلهم اتجاه المتلقي يجعلهم يسلكون هذا الطريق ,فهم مملوؤن بهواجس ردود فعل المتلقي . وهم عادة ما يكونون من الذين يخشون النقد , و يهربون من المناقشة .أضف إلي هذا أن الصور والأفكار بداخلهم تكون غير مكتملة تشوبها الضبابية ,متفلتة وجامحة تتغلب على قدرتهم في الترويض . النص العاري يبقي الكاتب ينظر إلى غيره , ويتمثل المتلقي في نصه , و يترصد ردود أفعاله حتى تكبر التجربة و يزيد التمرس فيبدأ المتلقي بالسقوط من النص ليبقي هو وحيدا في كتاباته ..وتتضخم الذاتية فيه حتى يقع الانفجار الذي يعلو به ...ليتجرد النص من المتلقي ومن الذات , وتبقي الفكرة المرادة هي سيدة الكلمات و الأحرف لا ينازعها شيء وهذا هو النص العاري أجود النصوص, الوسيلة التي خلصت بجملتها للغاية . والغاية هي صناعة وجود للفكرة , وإدخالها ضمن الإطار الزمان و المكان فالأدب لا يخضع لقانون العرض و الطلب , و النصوص التي تحاول استرضاء المتلقي هي أول ضحاياه لأن –المتلقي- لا يريد أن يرى طيفه يملأ نصا يقرأه , بل يريد نصا مستقلا يستفزه , الأمر الذي يجعل النصوص العارية من سلطة المتلقي هي رغبته الحقيقية ...و هي نفس النصوص القادرة علي تشكيله وإثارة التحول بداخله.ولا يمكن اعتبار هذه الخاصية سلطة للكاتب , ففي واقع الأمر لا سلطة لأحدهما علي الأخر , وإنما هي سلطة الفكرة التي تظل الجميع تحتها ,إما اتفاقا أو اختلافا , لذا إن أردنا تشكيل المتلقي يجب أن نخرجه من النص . إذا رضينا بالتقسيم الأول علي ضوء علاقة الكاتب أو المبدع بالمتلقي فإننا نتجرأ علي تقسيم أخر ولكن هذه المرة علي ضوء علاقة المبدع بنصه . النص المكتمل لا يمكن أن يصل كل الكتاب إلي درجة الإبداع , إنها حقيقة مسلم بها من كل ذي عقل , فماذا يمكن أن نسمي نصوص هؤلاء؟ الذين نالوا درجة كاتب ولم يسعفهم الحظ أو الجهد للوصول للإبداع , ر غم ذاك لهم تميزهم ..لا نجد تسمية أوفق من النصوص المكتملة و هي التي تأخذ الأفكار الموجودة سلفا بأساليب جديدة فإبداعها قاصر علي طريقة التناول وأسلوب المعالجة ..بمعني أنها حاضنة للإبداع وليست مبدعة . أما النوع الثاني فهي النصوص المبدعة التي يكون إبداعها في الفكرة خلقا , وفي اللغة تشكيلا, وفي الأسلوب تفردا. * عن مجلة أصوات الشمال. (عنوان المقال الأصلي: حديث في الصناعة)