حميد ناصر خوجة قبل البدء: في أوقات الشدّة هذه، تحلّ علينا اليوم، الذكرى الرابعة لرحيل الأديب الناقد والروائي الشاعر حميد ناصر خوجة (1953-2016)، وقد ارتأينا أن نخط هذه الكلمات المتواضعة التي لا تفي بالغرض، لأن الكتابة عنه مهما كثرت فهي قليلة، لكنها تذكر وتشير، وفي الذكرى منفعة، لأنها محطة لاستخلاص العبر، وللتعبير عن بعض من الوفاء، لمن كان مثالا في الوفاء، لأستاذه الشاعر الجزائري: جان سيناك. هذا وستكون لنا محطات أخرى لتفاصيل أكثر، إن وفق الله، وحسبنا هنا هذا الاختصار. 1- بعض مما كتب في تأبينه: عشية رحيل الأستاذ والصديق حميد ناصر خوجة، انهالت التأبينات من كل جهة، ومن كل حدب وصوب، مما دفعنا إلى ضرورة أرشفة تلك الكتابات-الشهادات، وطبعا أخذت لغة موليير في ذلك النصيب الوافر، مما حدا بنا في مرحلة تالية للأرشفة، إلى إعادة القراءة، بتأن، بعد أخذ مسافة زمنية كافية لجلاء الرؤية، بعيدا عن حزن الفقد، وها نحن نعود في ذكراه الرابعة، لنبعث فقرات بعينها من تلك الشهادات، نرى أنها تؤدي الغرض من إعادة رسم ملامح واضحة وصافية لتلك الشخصية التي فقدنا. في يوم 18/09/2016م أي يومين بعد رحيله، كتب عنه المخرج السينمائي "علي عقيقة" على موقع جريدة "صباح الجزائر" Le Matin d'Algérie مقالا بعنوان: موت شاعر، صديق، أخ...، وكان من ضمن ما جاء فيه قوله:"سأركز خصوصا على سعادته بمعرفة أن الفيلم الذي أحضره حول جان سيناك، سيخرج الشاعر الكبير الذي كانه سيناك، من حالة صمت (مخجل)، هو الذي دافع في المؤتمرات والمنتديات الأدبية في العالم كلّه عن حق الجزائر في الخروج من (ليل الاستعمار).."، وفي نفس اليوم أي الثامن عشر من شهر سبتمبر كتب "عبد المجيد كاوة" على الصفحة الثقافية لجريدة "مساء الجزائر" Le Soir d'Algérie مقالا مطولا بعنوان: وداعا حميد ناصر خوجة.. وفي الغد أي صبيحة يوم 19/09/2016م، طالعتنا ذات الجريدة، أي "مساء الجزائر" على صفحتها الثقافية بمقال يفيض مشاعر تجاه فقيدنا، كتبه صديقه الشاعر الفرنسي: مارك بونان، وكان بعنوان: أخيّ Frérot وكان من أهم ما جاء فيه قوله: "دائما كنت أناديك (أخي)، حينما كنت تجيء إلى مارسيليا لتنقب في مكتبتنا –كنز علي بابا- كما كنت تسميها، واصفا تلك اللحظة، لحظة عثورك على كتاب مفقود أو مجلة منسيّة.." بينما كتب الروائي والشاعر يوسف مراحي يوم: 21/09/2016م، في ركنه الأسبوعي بجريدة "مساء الجزائر" مقالا يستعيد فيه بعض ذكرياته مع حميد ناصر، بعنوان: رسالة إلى حميد ناصر خوجة. أما "مزيان فرحاني" فقد انتظر موعد صدور الملحق الأدبي لجريدة الوطن "فنون وآداب"، يوم: 24/09/2016م ليكتب مقالا بحجم صفحة كاملة، بعنوان: المتيّم بالجمال. 2- حميد ناصر خوجة وفيا: لماذا يستحق هذا الرجل أن يكتب عنه، لأنه بكل بساطة رمز للتضحية، ترك مستقبله الإبداعي فقد كان يمكن أن يكون روائيا فذا، وهو الذي كتب رواية في مقتبل عمره: "توأم"، وكان يمكن أن يكون شاعرا لا يشق له غبار على غرار "روني شار"، وهو الذي كتب قصائد "بعد اليد" مبكرا، وكان يمكن أن يكون قاصا، "لكنه ترك كل ذلك جانبا وانشغل بصفة حصرية بذاكرة يحيى الوهراني"(1)، كتبتُ عنه مرّة بلغة "موليير"، ومرّة بلغة "سيبويه"، مرّة بروح الخطيبي "لا شفاء ممكنا إلا في كتابة مبينة"، ومرّة بروح ابن عربي "كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه"، لكن كل العبارات ضاقت أمام ذكراه ولم تتسع لا للحزن ولا للذكرى. وها قد اخترتُ هذه المرة الكتابة عنه باللغة التي أحبّ، والتي لم يتمكن من تعلمها أبدا، إنها لغة صلاته، ودعائه، وابتهاله لله، اللغة التي كان يتمتم بها ورده سرّا، في ليالي الشتاء قرب المدفأة، القابعة في الممر بين مكتبته الخاصة وصالة استقبال الأصدقاء والطلبة والزوار، وكانت سبحة بنية تصطك في يده، يخفيها بعيدا عن الأعين، لقد كانت العربية لغة أسراره. لقد كان الأديب الناقد حميد ناصر خوجة من بين الموصى لهم في "وصية سيناك"، لم يكن سيناك لينسى ذلك الشاب اليافع، المبدع ابن الأخضرية، ولا يمكن ل"سيناك" أيضا أن لا ينتبه لتلك اللهفة التي كان الشاب يبديها، وهو يقرأ شعره، وهو يتشرّب كلماته، تختلج الكلمات إذ ينطقها، فترتعش المعاني مرفرفة في كل حدب وصوب. 3- حميد ناصر خوجة ناقدا: ولكي يثبت بالدليل أن سيناك كان ناقدا، كان على ناصر خوجة أن يكون ناقدا هو أيضا، وأن يتتبع مختلف الكتابات الصحفية خصوصا، التي كان سيناك يخص بها الأدباء الشباب وأدباء شمال إفريقيا، والتي كانت بمثابة شاهد على تلك الحركة الأدبية التي ستعرف بأدب الجزائر أو مدرسة الجزائر. لقد كان قارئا فذّا، يحتفي بالكتاب، ويعتبره "مسألة قلب، لكن من القلب إلى اليد: وسيلة معرفة بالنسبة للمدرسي-طالب الثانوي – الجامعي، ووسيلة استفهام أو بالنسبة للمثقف، ومنتج ثقافي بالنسبة للناشر، ونافذة لا نهائية في فضاء لا نهائي لمكتبة، و"صديق حقيقي" مكان مشترك لا يتكرر غالبا بالنسبة للقارئ"(2) كتب ناصر أيضا عن الحركة الأدبية الجزائرية وذلك بالتركيز على بعض الوجه مثل مقاله الرائع عن رواية الكاتب المهدي أشرشور، المعنونة ب "بلاد لا تؤذي أحدا" Pays d'aucun mal ، وكتب عن "فرانز فانون" وآسيا جبار، وعن الرحيل المفجع للناشرة "شانتال لوفافر"، وأعدّ ملفات لمجلة "ليفراسك" Livrescq حيث ساهم في إعداد والإشراف رفقة "نادية سبخي" على أعداد خاصة من المجلة، أفردها لكل من: الطاهر جاووت، مولود فرعون، ألبير كامو، دون أن ينسى مئويات من ولدوا في 1913م مثل "ألبير قصيري". كما اهتم "عمي ناصر" كذلك بحركة الكتابة المحلية، فكان يشجع الكتّاب الشباب المحليين، ويمدّهم بالنصيحة، ولا يبخل عليهم بمختلف العناوين التي تعجّ بها مكتبته، وكان له دور بارز في تنشيط "جمعية الحضور الثقافي" ومجلّتها "حضور" التي للأسف الشديد لم يصدر منها إلا عدد واحد، فقد عرّف بالكاتب أحمد خير الدين صاحب رائعة: حجر الملح، التي يعيد فيها بناء وسرد سيرة النقيب محمد بن الشريف، وحين حدثته عن ترجمتي لبعض قصص "حميد سكيف"، اقترح عليّ ترجمة بعض نصوص "مصطفى الأشرف" النادرة، وبالفعل حضّر لي ملفا بخصوص ذلك، لكن هادم اللذات حال بيننا وبين إتمام ذلك. 4- في صحبة "عمي ناصر": كان "رولان بارت" غالبا ما يحضر بيننا، بطريقة ما، ضحك عمي ناصر ذات يوم حين رددت أمامه عبارة "بارت" التي تقول "الفعل كتب هو فعل غير متعد"، وأومأ لي كأنه كان بصدد إفشاء سر متعلق بأحد كتبه، ولم يفصح عنه حينها، لكنني حينما كنت أقرأ كتابه "جان سيناك ناقدا"، هالني الأمر، وأغرقني في حنين عميق، كنت أستحضر تلك الإيماءة، وتلك اللحظة، وتلك الابتسامة، وأنا أجد عبارات ل"بارت" تلح عليّ: "الشكل ليس حلية ولا مجموعة قواعد، بل تشخيص لأحاسيس ملتصقة بتجاويف الذات وبأعماق الموضوع.. وعلى الكاتب أن يواجه العالم والأشياء وأن يختار عزلته أو حضوره مع الآخرين.."[3]، هكذا وجدت عمي ناصر حينها، يشاغب على الأطراف الأطر المنهجية، ليمنح حروفه عن جان سيناك، صرامة الناقد، وخيال المبدع، إنها تجاويف الحنين والوفاء تلك التي تتسرب من روح الكاتب، لتسمح لكتابته بأن تصمد في وجه النسيان. قال مرة صديقه غاي ديغا: "لا بد لنا أن نجد الطريقة التي بها نستطيع أن نكرّم حميد ناصر خوجة، التكريم الواجب علينا تجاهه، هو الذي ظل كريما كرما شاملا، والرابط الأخوي بين ضفتين، بيننا جميعا." لكنني لا أخفيكم سرا إن أخبرتكم أنني لم أجد هذه الطريقة بعد، أقرأ على روحه آيات من الكتاب الكريم وأنا واقف عند شاهد قبره، وأنا أترجى تلك الحجارة الصمّاء التي حالت بيننا أن تلين، "وإن من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء"، لكن حينما أنتبه لنفسي، أقول "رحمك الله يا عمي ناصر"، وأسرع الخطو خارجا من باب "المقبرة الخضراء" الشرقي، مثقلا بحزن شفاف لا شفاء منه. عبد القادر حميدة الجلفة يوم: 15-09-2020 حميد ناصر خوجة رفقة صديقه "غاي ديغا" هوامش [1] Youcef Merahi: Lettre à Hamid Nacer Khodja, Le soir d'Algérie, Tendances, No 7901, 21 septembre 2016. [2] Hamid Nacer Khodja: le livre est une question de cœur, rubrique de Kaddour m'hamsadji le temps d'écrire, d'éditer, de publier, de lire, de relire…, culture, l'Expression, 27 juillet 2011, p21. [3] رولان بارت: الدرجة الصفر للكتابة، ط4، دار العين للنشر، القاهرة، مصر، 2009، ص15.