الشيخ عطية مسعودي الشيخ الإمام عطية مسعودي (19001989م) عليه رحمة الله من الفقهاء الذين برعوا في مجال الفتوى بعدما تشرّبوا أصول العلم من مضانه ومنابعه الأصيلة، ومن الفقهاء الذين لم تهيئ لهم الظروف حتى يبزغ نجمهم مثلما بزغ نجم كثير من أقرانه في سماء الجزائر، وإن بلوغ مرام الصيت هذا يصنعه أولا بعد توفيق الله عزّ وجل الأهل والخلان والأبناء، ونحن نعلم بما علمته لنا تجارب الحياة بأن المذاهب والتيارات والنظريات ما كان لها أن تبلغ الصيت والانتشار والتوسع لولا حمل الأبناء لمشعل فكرة العلماء، والنموذج في ذلك مذاهب الفقهاء التي فيها من لاق ذلك الانتشار والتوسع بسبب حمل الطلاب لمشعل رؤى مشايخهم ووفاء السلطان لإحياء سيرهم واعتماد رؤاهم حتى يكونوا نموذجا للأجيال، ورفع الأهل لقيمتهم عاليا وذكرهم على كل لسان حتى حبذت الغير لمعرفتهم والنهل من علمهم، وفيها من اندثر رغم أنها لا تقل شأنا عن تلك المذاهب ولكن خذلان الطلاب وإهمال الأهل جعلهم بين أقرانهم في خفوت وذبول ونسيان. هذه سنن الحياة التي جعلت كثير من أساتذة ومشايخ وفقهاء منطقة الجلفة في طي النسيان رغم ما بلغوه من شأن وشأو عظيم في مجال العلم والعطاء والتميّز، والسبب خذلان الأهل والخلان والأبناء، ونموذجنا فيما نكتب الشيخ الإمام عطية مسعودي الذي تميّز في مجال الفقه تميزا لم يبلغه في زمانه كثير من أهل علم الجزائر، ولكن التواضع الشديد وما ذكرنا من عوامل حال دون معرفة أهل الجزائر لهذا الفقيه الفذ، والمتتبع لسيرة الشيخ يدرك ما كان يعانيه من مكايدة وهجران وعدم إحلاله المقام اللائق وهو حي بين أظهر أهله وخلانه، حتى أنه كان يرى ويسمح من أهل بلدته من يعظم من هم من خارجها ويرفع لهم القيمة رغم أنهم أقل منه شأنا وشأوا في العلم والمقام، وكان رغم ذلك عليه رحمة الله يكتم كثيرا هذه المظاهر ويتحامل على نفسه ويكابد لأجل الرفع من قيمة أهله وبلدته وشعاره: (ليت قومي يعلمون). فالحقيقة أن القوم كلما رفعوا من قيمة أهل العلم والصلاح من أبنائهم كلما ارتفع شأنهم وأعزهم الناس ورفعوا لهم القيمة، وكلما تخاذلوا في رفع قيمة أبنائهم الصالحين وأهل العلم المنافحين كلما أذلهم الغير وجعلوا منهم تبّع صاغرين. ورغم الكتمان والتحامل على النفس من قبل الشيخ الإمام الذي ذكرنا إلاّ أنه كان لا يصبر على ذلك فيبيح للأقربين هذا الهمّ ومن نماذج ذلك نذكر: * - قصيدته الحزينة التي تبكي كل أصيل يقرأها ورغم ما فيها من لوعة إلا أنه كان يوصي بعدم توسيع نشرها إلا في حدود النصح والتنبيه، واستجابة لذلك سألتزم بذلك وسأنشر بعض أبياتها وأحجم عن بقية الأبيات، وقد قالها لما رآه من عجب في أهل بعض هذه البلدة كيف أنهم يلقون من يأتي من خارج أهلها بالعلو والرفعة والتبعية حتى ولو كان وضيعا، وتقزّم من أبنائها رغم رفعة شأنهم ومكانتهم الأخلاقية والعلمية، ومن ذلك قوله : عجبت لأم تربي الربيب وفي اليم تقذف أبناءها تسيئ الجوار لكل قريب وتحبسنه للذي كادها وتلقى الغريب بصدر رحيب وتعطيه طائعة زادها وما للذي ولدته نصيب لديها ولو رام إسعادها فليست ترى حسنات الحبيب ولا سيآت الذي كادها فمن عقّها نال عيشا خصيبا ومن برّها نال إبعادها ألا ليت شعري هل من طبيب خبير يرى أمنا ما دها فيا رب أنت القريب المجيب بفضلك تصلح إفسادها وتكشف عنها وعنا الكروب وتعلي بخصب المنى وادها * - وقال أيضا في مواقف أخرى أحزنته وكلها من قبيل ما ذكرنا قصيدة يتنفس من خلالها أكتفي بذكر أبيات منها : هم تركوني والأراقم تزحف وهم خذلوني والسيف ترهف أقمت زمانا بينهم وكأنني غريب بدار لست بالدار أعرف وصرت كحلس البيت وقتي فلا غريب بدار لست في الدار أعرف حتى قال : تواضعت حتى قيل أنك خاضع خضوع ذليل سائل يتكفف ولو أنصفوا قالوا التواضع رفعة وعزّ به الأبرار في الخلق توصف ستعلم من منا إذا انكشف الغطا أبرّ وأوفى من أخيه وأرأف ويختمها بقوله : فلا أوهن الرحمان يوما عزيمتي ولا خاب لي مسعى، ولا ذلّ موقف فيا مالك الملك العظيم جلاله ومن وحده في ملكه يتصرف أغثني بلطف منك، وارحم تضرعي فإنك بي مني أبر وألطف وكان رغم كل ما لاقى الشيخ يصرّ على مواصلة رسالة العلم والتعليم والفتوى وهو يردد دائما : ما تجرأت على الفتوى إلاّ انطلاقا من واجبي الشرعي الذي سيسألني الله عنه إذا لم أؤدي حقه مصداقا لقوله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ"، وأخاف من وعيد من كتم علما بقوله : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ". وما جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سئل عن علم فكتمه وهو يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". فكان يعتبر رحمة الله عليه أن أداء الفتوى هو خوف من ذلك الوعيد و أنه كان يقول: "أجيب السائلين بما أعلمه مع شدة التحري في أن لا أخرج عن حدود المفتي الذي هو الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام، وإنني أشفق على نفسي من أن أدخل فيما يغضب ربي، أو يوجب عليّ لوما، وإنني فيها مكره أخاك لا بطل ". وقد بيّن ذلك في كتابه لأحد قضاة المحكمة، حينما حذّره من الإفتاء لأنه في نظره يسبب للمحكمة ارتباكا في أعمالها، فأجابه بما نصّه : الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على رسول الله وآله وبعد : سلام الاحترام و التحية و التعظيم و الإكرام لجناب الأستاذ قاضي المحكمة و أعوانه وفّقهم الله وسدد خطاهم وأجزى على النهج القويم مسعاهم فإنكم تعلمون ما ابتلاني الله به من معرفة مسائل الدين وواجب عليّ تبيينها للناس بمقتضى قوله سبحانه وتعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ " سورة آل عمران الآية (187) وأوعد من كتم علما بقوله : " "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " سورة البقرة الآية (158)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه وهو يعلمه ألجم بلجام من نار" فخوفا من هذا الوعيد كنت أجيب السائلين بما أعلمه مع شدة التحري في أن لا أخرج عن حدود المفتي الذي هو الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام، و أخيرا بلغنا أنكم مستاءون من إفتائي للناس فإن كان لضنكم أني متدخل في ما ليس من وظيفة المفتي مما يختص بالمحكمة فهو ضن غير مصيب، بل كثيرا ما كنت أحيل مسائل النزاع على المحكمة بشهادة كثير ممن يستفتونني واسألوهم إن شئتم يا إخواني. أنا أشفق على نفسي من أن أدخل فيما يغضب ربي، أو يوجب عليّ لوما، ولست و الحمد لله ممن لا يعرف قدره أو يتعدى طوره، ومع ذلك فلو صدر إلي ّ منكم أمر بالمنع من الإفتاء لتلقيت ذلك الأمر بصدر رحب، و أرحت نفسي لأني كما قيل : "مكره أخاك لا بطل" والسلام . فالشيخ عطية مسعودي في كل حياته لم يرد رفعة إلاّ مع الله، ولم يجعل يوما علمه سلّما للارتقاء حتى يشار إليه بالبنان، ولم يجعل علمه أيضا مجرد أكل قوت، بل هو إحقاق لما يريد رب الملكوت، وذات مرة راسله الشيخ الطاهر العبيدي وهو يصف له حال بعض أهل العلم في زمانه كيف أنهم جعلوا العلم الذي تعلموه حرفة دنيوية دنية لا للعمل والإخلاص لله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكما يقال الحرة تجوع ولا تأكل من ثديها فإننا نحن معشر العلماء والفقهاء نقول : "أن المؤمن يجوع ولا يأكل بدينه ". الشيخ عطية مسعودي ما كان يقارب باب السلطان يوما ولا مزيّنا لمجالسه لأنه كان يريد دائما حفظ مقام العلم وأهله، وكان يعتبر بأن وقوف السلطان على باب العلماء هو الأولى والأصح لأنهم المصابيح التي يستضاء بها وليس العكس. وذات مرة قال له السلطان مالنا ندعوك فلا تجيبنا، فقال إجابتنا أولى، ونحن أيضا ندعوكم في اليوم خمس مرات (وهو يقصد الآذان) فلا تجيبنا، إنه الورع وقوة الإيمان وانعدام الطمع في الدنيا التي كثيرا ما أذلت العلماء، فأهل العلم الحقة هم الذين لا يريدون إلاّ الله وأداء رسالة ما اختارهم الله من أجله، وفي ذلك يقول عليه رحمة الله: أدل على خير وأدعو إلى الهدى وأوضح حكما بالبيان وأكشف ووالله لولا خشية ربنا ومالك ما يرجى وما يتخوف لكنت تركت الدرس منعزلا ولا أبث لهم نصحي ولا أتكلف ولكنني في الخير أسعى وإن أبوا ولم يسمعوا قولي وفي الهجر أسرفوا فلا أوهن الرحمان يوما عزيمتي ولا خاب لي مسعى، ولا ذلّ موقف هذا هو الفقيه الشيخ الإمام عطية مسعودي الذي كان يعالج القضايا والمشكلات التي كانت تحدث للناس، ويحتاجون إلى حكم الشرع فيها بما يتماشى مع روح العصر، كما لم تكن فتاواه مجرد جواب عابر عن سؤال طارئ بل كانت فيها رسائل التثقيف و التوعية والتوجيه وقد عرف الشيخ بأجوبته المقنعة التي تقارع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل ولم يكن مجرد ناقلا لفتوى غيره ومؤديا لما تلقاه، وإنما كان لبيب عارف يسهم بما ناله من علم وما اكتسبه من رجاحة عقل في اجتهاده في استخراج الأدلة الشرعية من أجل مقارعة نوازل العصر، ورغم أن فتاواه كانت تراعي بالمجمل المذهب المالكي باعتباره قاعدة تكوينه الفقهي ومرتكزه في الفتوى، إلاّ أن ذلك لم يحده في بعض الأحيان لأن يخرج في فتاويه عن مذهبه إذا اقتضت الضرورة و المصلحة. وينبغي أن ندرك بأن الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي لم تكن مجرد أجوبة عابرة بل كانت مؤسسة على مرتكزات أساسية بني عليها الفقه برمته وهي ما تعارف عليها بأصول الفقه والتي عرفها الفقهاء بأنها تلك المصادر التي يستنبط منها الأحكام، وهي القرآن و السنة و الإجماع و القياس و الاستحسان والمصالح المرسلة و العمل بأهل المدينة و الأخذ بأقوال الصحابة، كل هذه المصادر كانت مدار رحى الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي، بمعنى أن فتاويه كانت مبنية على منهج متدرج تتحكم فيه مصادر التشريع الإسلامي درجة درجة، ولمن يريد التعمق في منهجه في الفتوى فليطالع مقالي في هذا الشأن المنشور عبر جريدة (الجلفة انفو) الإخبارية، ومجلة التراث المحكمة. هذه الفتوى التي كان يتحرى فيها الشيخ مراقبة الله له أيما تحري، وأمانة ما عليه من حق للخلق فيه، لذلك نهج فيها منهجا وسطا فهو لم يذهب مذهب التشديد الخالص الذي يدعو إلى تجميد كل شيء في الحياة والتقوقع على ظاهر النص، ولا مذهب التخفيف المطلق المؤدي إلى الانحلال والتميّع وتفسير الحقائق حسب الهوى ومراد النفس، فقد كان معتدلا يعتمد على الكتاب والسنة دون أن يغفل عن روح التشريع ومراعاة المصالح والمفاسد كأصل من أصول مذهب الإمام مالك والتي من بينها درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وكذا مبدأ التيسير ورفع الحرج و المشقة باعتماده على الأدلة العقلية كالقياس والمصلحة المرسلة والاستحسان وسد الذرائع مع مراعاة ظروف العصر، وأن اطلاعه الواسع وفهمه العميق الملفت للمسائل الفقهية وتنوع مصادر معرفته بالعلوم الإسلامية مكّنته من أن يتبوأ مكانة مرموقة بين أقرنائه من المشايخ وسمحت له في النهاية بأن يعالج قضايا الناس ومشاكلهم بروح المتمرّس المجتهد الذي يعرف متى تؤتى عزائم الله ومتى تؤتى رخصه، وهو لا يفعل ذلك محاباة لصاحب سطوة أو تقربا لذوي سلطة وجاه ولكنه يفعل ذلك عملا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشّروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". هذا هو شيخ الجلفة الإمام عطية مسعودي الذي غيبه أهله بالتجاهل والنسيان وقال في حقه من عرف قدره كلام يدوّن بماء الذهب، فهذا الشيخ محمد متولي الشعراوي عليه رحمة الله، لما سمع عن الشيخ من اتساع علم وبداهة عقل في الفتوى قال:"ليتني كنت فيها جذعا"، واستشهد بمسائله الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله، في محاضراته بالجامعة الإسلامية (الأمير عبد القادر بقسنطينة ).