توطئة ... غرضنا من إيراد هاتين القصتين هو إعطاء صورة عن المجتمع الجزائري بعد أن وطّد المحتل الفرنسي أركانه وشرع يطبق سياساته الخطيرة لا سيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وما بعده ... وقد تميّزت هذه الفترة بالجزائر عموما ومنطقة الجلفة خصوصا، بشدّة وطأة وفداحة الاحتلال الفرنسي ... فقد عانى الناس من مجاعة الستينات لا سيما سنة 1867 ثم تحملوا تبعات الثورات الرحمانية سنة 1871 وبالتوازي مع كل ذلك الشروع في تطبيق قانون سيناتوس كونسيلت "Sénatus-Consulte" منذ صدوره سنة 1863 والذي يقضي بتثبيت القبائل ورسم حدود لها بغية مراقبتها ... كل ذلك مثّل انقلابا كليا في موازين القوى لصالح السياسة الإستعمارية للمحتل الفرنسي الذي سعى إلى خلخلة تركيبة المجتمع الجزائري وهزّ استقراره وتشجيع الصراعات بين العشائر بسبب التدهور الاقتصادي والتغريم والجباية والمصادرات والتدافع القبلي على موارد المعيشة من مراعي وينابيع وطرق ... هذه الظروف عاشتها منطقة أولاد نايل واحتفظت الذاكرة الشعبية ببعض قصصها. وسنروي قصتين منها بقدر ما تحكيان مرارة العيش آنذاك إلا أنهما تعكسان جانبا من المروءة والشهامة والولاء للقبيلة والأخلاق العربية السامية التي لم يتنازل عنها أبناء المنطقة. القصّة الأولى ... الراوية هو الحاج "علي بن عيسى بن بن دادي"، 80 سنة، أطال الله عمره ... يُروى أن فخذا من إحدى قبائل "أولاد نائل" سار شمالا لينتجع في ضواحي عين بوسيف التابعة للمنطقة المعروفة سابقا باسم "بايلك التيطري". هناك يتوفر الكلأ في الربيع والحصائد في الصيف مقارنة بقساوة الظروف المناخية مما جعل من الترحال حتمية أزلية في حياة البدو ... وكان على رأس هذا الفخذ المنتجع "الحاج قويدر بن إبراهيم" المكنى ب "الحاج بن دادي 1860-1930" وهو شخصية مشهورة من قبيلة أولاد أم الإخوة. يُطلق مصطلح "شيخ النزلة" على رئيس الخيام المرتحلة والتي تنتمي عادة إلى نفس الجد ... وشيخ نزلتنا في هذا المقال هو "الحاج بن دادي" أبوه "إبراهيم بن الحطاب" فارس مشهور بين قومه توفي في ريعان شبابه وترك أبناءه يتامى وقبره مجهول. و"بن دادي" هو أيضا حفيد المقاوم الشهير "الحطاب" الذي قتل الضابط الفرنسي "دوبوا ڨيلبير De Bois Guilbert" في معركة عين الناقة سنة 1854 التي كانت شرارة انطلاق انتفاضة أولاد أم الإخوة ... وهكذا فإن الحاج بن دادي ورث الشجاعة أبا عن جد فصار فارسا مقداما لا يُشقّ له غبار ينصر المظلوم ولا يقبل الضيم، جُبل على خصال البدوي العربي الأصيل من شهامة ونخوة وغيرة وزعامة قبلية ... هذه الخصال أهّلته ليكون شيخ نزلته كما تترجمها الحادثة المتواترة والتي وقعت أطوارُها في صائفة 1895م. هذه الواقعة حدثت عندما صارت العشيرة في نهاية موسم انتجاعها بعد انقضاء الكلأ في الحقول التي استأجروها بالتل، وهاهم القوم قد أزمعوا على شد الرحال إلى مضاربهم جنوباً ب "المحاڨن" بمنطقة فيض البطمة ... كان ضمن العشيرة حدّاد ماهر يدعى "الحويلي" وهو ابن عم شيخ النزلة "بن دادي" ... احترف "الحويلي" صنعته بمهارة من مناجل وسكاكين وفِخاخ ولهذا كان يُطلق اسم "المعلّم" على كل حاذق في الحدادة وما يتصل بها من حرف ...وحدث أن صنع الحدّاد لأحد "التلية" المدعو "البخوش" بعض الأدوات الحديدية لكن هذا الأخير لم يدفع له أجرته فألحّ عليه "الحويلي" وطلب منه الوفاء بحقّه لأن العشيرة توشك على الرحيل. لكن البخوش كان متغطرساً ومتجبراً ومتسلطا بحكم أنه صاحب مالٍ وجاه، وسرعان ما اشتد النقاش بينهما ليتحول إلى شجار فانطلق "البخوش" الى أهله وأخذ بندقيته بعدما حشاها قمحاً أي أن نيته لم تكن القتل وإنما أن يجرح خصيمه ... وتوجه نحو الحرفي ليُصوّب ماسورته نحو رأس "الحويلي" ويطلق النار عليه فسقط الحرفي مغشيا عليه من أثر الإصابة. وفي هذه الأثناء سمع بن دادي جلبة واستفاق من قيلولته على صوت البارود فقام مسرعاً إلى بندقيته وأخذ الذخيرة الحية وتوجه على عجل ليجد ابن عمه ساقطا على الأرض والدماء تنزف من حاجبه فتلمّسه وناداه باسمه لكنه لم يُجب ... فاعتقد أنه قد فارق الحياة فثار غضبا ولحق "البخوش" وأرداه قتيلاً بعيار ناري ثم نادى عشيرته أن احزموا الأمتعة وشُدّوا الرحال ... بعد ذلك خرجت أم الضحية وقد ملأت الدنيا صياحا وبكاء وعويلا على ما حلّ بفلذة كبدها ... ويُروى أنها كانت تردد بأعلى صوت "يا البخوش يا البخوش وليدات النايلية ما يحنّوش" ... جاءت سلطة المحتل الفرنسي لمعاينة مسرح الجريمة والبحث عن مقترفها وحدث أن كان هناك أحد أقرباء "بن دادي" المُسمّى "بن عبد الله". وهو كهل قد تعدى عمر الشباب وحاله أقرب إلى حال "الدرويش" او "الزهدي"، وبحماس منه اتفق مع بن دادي وقال له "أنت لك أولاد صغار ولن تذهب إلى السجن وأنا لست رب أسرة ولا دور لي في العشيرة فأنا "خالي دار" والله لن أتركهم يأخذونك سأتحمل الجناية وحدي". وتوجه "بن عبد الله" إلى السلطات الفرنسية وسلم نفسه على أنه هو الجاني ليُكبل ويُؤخذ إلى السجن بينما شدّت عشيرتُه الرحال جنوبا. وبعد مرور أيام أُطلِق سراح "بن عبد الله" بعد أن ظهر لهم كشخص مختل عقليا ولا فائدة من حبسه ... لحق "بن عبد الله" عشيرته بالصحراء بعد معاناة المشي والتعب والجوع ففرحوا بقدومه وتكرموا عليه بالذبائح والأفراح جزاء إيثاره وموقفه الشجاع. أما الحاج بن دادي فقد أحسّ بالذنب وندم ندماً شديداً على ما قام به ليستشير بعض علماء المنطقة على خطيئته فكان من بين ما أشاروا عليه أن يشُد الرحال إلى البقاع المقدسة، ولا نملك فيما وصلنا من روايات شفوية معلومات عن دفعه دية الميت ولعلّه قد فعل ذلك قبل أن يحُجّ. انتظر الشيخ بن دادي قدوم قوافل الحجاج التي كانت تمر عبر مضاربهم وقد أعدّ عدته ليقصد بيت الله الحرام مؤدياً الركن الخامس عسى أن يكفر الله فعلته مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" ... ولكن خلال فترة حجّه شاء القدر أن يُقتل له أخ على يد أحد فرسان قبيلة صحراوية مجاورة ... ولما رجع بن دادي من الحجاز تفاجأ بغياب أخيه عن باقي مستقبليه فسأل القوم عنه فأخبروه أنه قد فارق الحياة في إحدى غارات القبائل من طرف فارس يكنى ب "صاولي"... وكان "بن دادي" يعرفه جيداً فعزم على أن لا يُغير عمامته ولا يحلق شاربه ولا يستحم حتى يثأر لدم أخيه ... وهنا تدخل كبار وعقلاء القبيلة ليُهدؤوا من غضبه وغيضه وقال له أحدهم "أنت حاج وإذا قتلته ستفسد حجتك بذلك" ... فنادى "بن دادي" أخاه الصغير الفتى اليافع بأن يحمل بندقيته ويتبعه في البحث عن قاتل أخيهما وتوجها في رحلة رد الثأر وبعد أيام قيل لهم أنه ذهب إلى إحدى الأسواق الصحراوية فترصده "بن دادي" وعندما رآه أمر أخاه بإطلاق النار عليه. لكن هذا الأخير تعذر بحجج واهية بأن كبسولة بندقيته لم تشتعل والطارق ضعيف لكن "بن دادي" ألح عليه ولم يلتمس له العذر وقال أنا لا أريد أن أفسد حجتي خذ بندقيتي التي لا تعطف ولا تعرف الرأفة أو عبارته الشهيرة "هاك لي ما تْحنّش" ... فما كان على الأخ الصغير إلا أن نفّذ الأمر فسدد نحو الفارس وناداه باسمه ليرديه قتيلاً وبعد ذلك لفّوا جثته ببرنوسه ودفنوه تحت شجرة سدرة. وهناك أبيات شعرية قالتها شقيقة "الصاولي" بعد وفاته تنعيه و تهجو أخ "بن دادي" الفتى الصغير بقولها: ڨتلو نايلي لبّان يا شومان *** وزنادو كليلة ما ينوضشي فتردّ عليها شاعرة نايلية: ڨتلو نايلي مغروم قبل الصوم *** وزنادو مشلّل قيمتو حاشي شرح الأبيات ... الشاعرة أخت "الصاولي" تريد الحط والتقليل من شأن فارس "أولاد نائل" بأنهم رعاة وشُغلهم الشاغل هو شرب اللبن والنوم. وقولها "يا شومان" وهو لفظ للندبة يا ويلاه. وقولها "لكليلة" وهي من مشتقات الحليب وهذا تعبير للتقليل والوضع من قيمة الفارس بأنه لا يجيد استعمال السلاح ولا يفرق بين الكليلة وحشوة البارود. وينتمي البيت الشعري إلى غرض الهجاء المعروف محليا باسم "المعر، أي يمعر فلانا". أما الشاعرة النائلية فقد كان ردها الرفع والإعلاء من قيمة الفارس النائلي بقولها "مغروم قبل الصوم" وهذا معناه أن الفارس مولع بفتوته وإن لم يبلغ سن الصوم. وقولها "وزنادو مشلّل" أي أن طارق البندقية توضع عليه فتائل من الذهب وقيمتها باهضة قد تصل الى سعر "الحاشي" وهو "الحُوار" أي صغير الجمل. القصة الثانية ... الراوي هو الشيخ "لمريني رڨيڨ بن لخضر"، 82 سنة، أطال الله عمره ... كان "عمر بن الرڨيڨ" و"عطية" الملقب ب "لعور"، صديقان من قبيلتين مختلفتين من أولاد نايل لا يجمعهما سوى احتراف الصعلكة والإغارة على القبائل معاً. وذات يوم نشب بينهما خلاف حاد وكان سببه أن "عطية لعور" قام بالسطو على أحد أقارب "عمر" فعاتبه هذا الأخير على فعلته. لكن "عطية لعور" لم يتوقف عند هذا الحد ففي صبيحة يوم عيد الأضحى ذهب الى خيمة أهل عمر يطلبه كلب صيد "سلوڨي" فأجابه عمر بردّ صار مثلا شعبيا مشهورا "الكلب لي يطلب الكلب والكلب لي يمدّو" ... فغادر "عطية لعور" المكان واتجه إلى مرعى غريمه ليسطو عليه ولكنّ "عمر" كان له بالمرصاد فأطلق عليه عياراً ناريا أرداه قتيلاً. ومن مسافة غير بعيدة جاء أبناء عمومة القتيل فحملوا الجثة وأرادوا طمس معالم الجريمة وذلك بوضع الجثة خارج مضارب قبيلة "أولاد عيفة" التي ينتمي إليها عمر حتى يُعتقد أن القاتل قد انتهك حرمة قبيلة "عطية لعور" وقتله هناك ... وكان لعمر أخ صغير على قدر من الفطنة والنباهة فعرف مخطط الإيقاع بأخيه فتتبع ناقلي جثة القتيل خلال سيرهم ولاحظ كيف أنهم يطمسون آثار الدماء بالتراب ... فجرح إحدى ساقيه بسكين وسار وراءهم والدم ينزف من ساقه على طول الطريق بينما هم منهمكون بتحويل الجثة ثم وضعها بجوار بئر عامة تقع في منطقة حدودية بين العشيرتين. وأشاع أهل القتيل أن الجاني هو من تعدّى واقترف الجرم عند البئر واختلقوا لذلك قصة عن محاولة حرمانهم من السقاية وغايتهم تبرئة ابن عمهم القتيل من السرقة والتعدي ... وعند وصول الحاكم والقايد رفقة سلطات المحتل الفرنسي علموا أن الجثة حولت من مكان وقوع الحادثة وأن الجريمة فيها لُبس وهذا بفضل نباهة الأخ الأصغر لعمر ... فأخذوا عمر الى مركز الجلفة وبحضور القايد "بن عياش بن السلمي 1802-1892" والحاكم الفرنسي سُمعت شهادة "عمر بن رڨيڨ" ليأخذوه بعدها الى حقل الرماية القديم، وهو حالياً ميدان سباق الخيل لمدينة الجلفة، وتوضع له يد مِعول "فأس" على بعد مئة خطوة واشترطوا عليه إن أصاب الهدف سيدفع الدية ويُخلى حال سبيله واذا لم يُصب الهدف حتماً سيقضي ما تبقى من عمره سجيناً، فوافق الفارس عمر على هذا الرهان وتقدم بخطى ثابتة ليتموقع ويرتكز بوضعية الرامي الكفئ والجمهور واجم محبوس الأنفاس ليشهد كيف أن رمية ستقرر مصير رجل ما بين الحرية أو السجن المؤبد ... أصاب عمر الهدف وقسم يد المعول إلى نصفين بحبة رصاص ليهرع إليه الجميع في دهشة ... فما كان عليه إلا دفع 100 شاة ومعها فرسُه كدية لأهل الضحية ... وهنا ملاحظة وجب أن نشير إليها وهي أن السلطة الاستعمارية كانت لها غاية من إذكاء الروح العدائية وشحن النعرات بين أبناء الأمة الواحدة وإضفاء جو يسوده العصبية القبلية ... وهو ما لاحظناه في التلاعب بقضية "عمر بن رڨيڨ" وتحويلها من طابعها الجنائي إلى مجرد رهان على الرماية والتسلية.