في حين يعزو أغلب دارسي أوضاع البلاد - التي كانت مستعمَرة - السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى ترهل البنى التحتية لتلك الدول بفعل الآلة المستعمِرة، والانفجار السكاني داخلها، وانعدام التكنولوجيا، وغيرها من الأسباب التي تبرّر استمرار الوضع على ما هو عليه بحكم استمرار وجودها، اعتبر الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله- مسألة التخلف مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقابلية لذلك الاستعمار ومواصلة الخنوع لتأثيراته، الفكرية والثقافية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية بصفة أشمل، وهو ما جعله يؤكد على أنّ « وطناً متخلفا لا بد له أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات، يستثمر كافة عقوله وسواعده ودقائقه، وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة اجتماعية واستمرار تلك الحركة(1) ». ويصف رحمه الله الفرد المحرك لعجلة التقدم بالثورية؛ إذا كانت نظرته إلى الوضع تغييرية رافضة للوصاية، بينما يوصف بالخنوع والاستسلام لفخ القابلية للاستعمار من كان محبَطا في ذاته محبِطا لغيره ولأي عملية تقدم، تعشش في داخله عقدة نقص تجاه الأجنبي، وتكبر مسؤولية كل منا في تحمّل تبعات الوضع الراهن، وحمل بذور الثورة، كلما كبُرت مواقعه في السلطة وزادت رقعته في النفوذ (2) . وفي هذا الإطار يقارن بن نبي رحمه الله بين أوضاع السيادة على محورين؛ اصطلح على تسمية الأول بمحور واشنطن-موسكو وعبّر عن حاله بما أسماه "نفسية القوة"، بينما ألصق صفة "البقاء" بحال ما يدور في فلك المحور الثاني طنجة-جاكرتا، وقابل بينهما أيضا من حيث طبيعة أوضاعهما، رغم أنّ المحور الأول يمثّل محور الصناعة، بينما يمثل الثاني محور المواد الأولية، في مفارقة عجيبة، يقع فيها مالك الشيء تحت رحمة صاحب الاستغلال، ويعمّق شعور البؤساء بالدونية والذيلية والتبعية للآخرين. لذلك يرى أستاذنا أنه حري ببلدان العالم الثالث الثورة على أوضاعها، ثورة ثقافية تذلّل مصاعبها وتكسّر عقدها وتزيح العراقيل – لاسيما النفسية – التي تعترض طريق نهضتها، حيث تتمتع مجتمعاتها انطلاقا بسلطان اجتماعي يمثله الإنسان والأرض والزمان، وهي العناصر المتاحة له دائما، على خلاف سلطان المال الذي لا يملكه دائما، والذي هو سبب تكبيل تحركاته دائما (3). ويرى رحمه أنّ محاولات الاستنهاض والتقدم بالنسبة للعالم الإسلامي، ليست قضية إمكان مالي، بقدر ما هي تعبئة للطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت، في مشروع تحرّكها إرادة حضارية لا تحجم أمام الصعوبات، ولا يأخذها الغرور في شبه تعال على الوسائل البسيطة التي في حوزتنا منذ الآن، ولا ينتظر العمل بها حفنة من العملة الصعبة، فالإمكان الاجتماعي هو من يقرّر مصير الشعوب والمجتمعات والدول (4). ولعل من أهم ما أبدعت فيه إسهامات الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله؛ التركيز على مفهومي الحق والواجب، والتعامل معهما باعتبارهما ثنائية تشكل وجهان لعملة واحدة، ومن الطبيعي أنّ كلمة واجب ترتبط بمفهوم العقبة، أي أنها ترتبط ببذل المجهود المرتبط باقتحام العقبة، وهو ما يحدد تلقائيا ثقافة جديدة (5) . نادراً ما مارسها العقل المسلم بعد عصور الانحطاط. وإذا كانت هذه النظرة منوطة بالأفراد، فإن ما يناط بالحكومات كواجبات في هذا المجال أهم؛ ففي الوقت الذي تشّكل لقمة العيش في الدول الغربية ورقة ضغط تحت غطاء مزيف اسمه الحرية السياسية، وفي الدول الشرقية مؤَمّنة نوعا ما بعنوان الاقتصاد الموجّه، في مقابل سلب حريته الثقافية والسياسية، أقام الإسلام تزاوجا بين حرية المعتقد من جهة، وبين التأمين والتكافل الاجتماعي من جهة أخرى، وهو الذي يضم في تشريعاته: ﴿ لا إكراه في الدين﴾ (6) و ﴿في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ (7)، فكان - بهذا المعنى - توفير العيش الكريم لأبناء المجتمع دون استثناء وبعيدا عن أي ولاءات، هو أول واجبات الحكومات (8). ويرى رحمة الله عليه أنّ شرط الحركية أي حركية؛ اجتماعية كانت أم اقتصادية أم سياسية أم ثقافية أم حضارية بصفة أشمل، مقرون بهذه الثنائية، ثنائية الحق-الواجب، أي الحق في لقمة العيش لكل فم، وواجب العمل على كل ساعد(9)، ذلك أنه يربط الإقلاع الحضاري وصناعة التاريخ بالانطلاق من مرحلة الواجبات المتواضعة، الخاصة بكل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، لا بانتظار الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة، التي قد لا تحدث أبدا... (*) جامعة الجلفة المراجع (1) مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دمشق، دار الفكر، 1978، ص 237. (2) د.أسعد السحمراني، ، مالك بن نبي "مفكرا إصلاحيا"، بيروت، دار النفائس، الطبعة الثانية، 1986، ص 237. (3) مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1979، ص 39. (4) نفس المصدر، ص 73 و 76. (5) مالك بن نبي، مجالس دمشق "محاضرات ألقيت في عامي 1971 – 1972 حول دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين"، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 2005، ص 120. (6) الآية 256 من سورة البقرة. (7) الآيتان 24 و 25 من سورة المعارج. (8) د.أسعد السحمراني، نفس المصدر، ص 242 و 243. (9) مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، نفس المصدر، ص 96.