سررت كثيرا – مثل أي مواطن غيور على وطنه يهمه مستوى تركيبته البشرية – حينما تداولت وسائل الاعلام تصريحات معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، حول عدد المنتسبين إلى مختلف المؤسسات الجامعية هذه السنة، والذي فاق مليون مقعداً بيداغوجياً.. ولطالما سررنا قبل ذلك بمثل هذه الأرقام: مليون مؤسسة صغيرة ومتوسطة، مليون محل تجاري، .. قبل أن نصطدم بمدلولاتها ومآلات اعتمادها ؟!.. تصوّر أن مليون مسجّل جامعي جديد، يحمل مليون فكرة جديدة، فكيف سيكون مآل بلادي بعد نهاية كل دورة جامعية، لك أن تتصوّر كيف سيكون موسم الحصاد، وقد سبقه رعاية مليون بذرة تغيير!!.. إننا كمجتمع وكأولياء تلاميذ بالخصوص نفخر بدخول أبنائنا إلى أعتاب الجامعة، التي قد لا تزال قدسية حرمها منقوشة في أذهاننا، حينما كان الشرقي والغربي، التلي والصحراوي، العربي والقبايلي والشاوي مجتمعون في هيئات جامعية محدودة العدد مبسوطة المدد، تسمّى شهاداتها بمسمياتها، وتتسم كشوف نقاطها بالمصداقية.. حينما كان الخريج منهم منارة إشعاع متّقدة في قريته أو في حيه، عندما يعود إليه مشمراً عن ساعد الجد والعمل، قدوة لغيره من الشباب، مؤثراً فيهم وفي توجهاتهم، وصانعاً لأحلامهم، فهو بملء فيه إطاراً مؤطرا لآمالهم!!.. حينما كان الخريج مشروعاً جاهزاً إذا ما وجد البيئة الملائمة، وبذرة يانعة إذا ما تم غرسها في التربة الخصبة التي تحافظ على خصائصه وتنميها، وخير دليل على ذلك النجاحات والإنجازات الجبارة للعقول الجزائرية في الخارج، والإضافات التي لم تبخل بها أدمغتهم المهاجرة على المجتمعات التي احتضنتها.. صحيح أنّ تطوّر أعداد المتمدرسين في الأطوار التعليمية، ومبدأ تكافؤ الفرص بين مختلف جهات الوطن، وسياسة تقريب الخدمة من المواطن، يفرض مؤسسات جامعية أكثر وعدد مقاعد بيداغوجية أكبر؛ ومنطقي أن نبتهج عند سماع أعداد المنتسبين إلى التعليم العالي، لأنه كلما ارتفعت تلك الأعداد في البلدان التي تحترم أبنائها ومواهبهم، كلما كان ذلك مؤشرا على التقدم والرقي.. لكنه ليس صحيحاً ومن غير المنطقي أن ينعكس ذلك سلبا على مجتمعاتنا، لأن ما يصدمنا في تلك الأرقام؛ هو عدم التناغم بين حجم الاستثمار المادي والبشري في هذا القطاع الحساس، وبين مخرجاته وأثر تلك المخرجات في واقع البلاد والعباد ؟!.. إنّ هذا الشعور مبرر في فهمنا لمدلول الإطار Le Cadre الذي نأمل الحصول عليه، أي نوعية الثمرة التي نأمل قطفها، فهناك فرق جلي بين الإطار الكادر الذي تستثمر فيه الدول المحترمة والمجتمعات الراقية، وبين الكادر الإطار الذي تتشبث به الدول المرهونة والمجتمعات الموهونة!!.. فالإطار الكادر دلالته منبثقة عن التعريف الأصلي للكلمة، التي تجعل الإنسان الركن الركين في أواصر الدولة، والحصن الحصين منبع قوّتها وحامي مكتسباتها، ومصدر قُوتها ومهندس أفكارها، المبادر إلى تغيير أوضاعها إلى الأحسن، والحريص على مراوحة مثلث التقليد والتخلف والتبعية.. بينما تدل كلمة الكادر الإطار ذات الأصل الفرنسي على الحيز الذي يضم صوراً تذكارية تعلّق على حائط التاريخ، وشهادات مختومة بها رفوف مكتباتنا، وكم ضجت مكاتبنا ومنازلنا بتلك الإطارات الجوفاء!!.. وقد يكون أغلب أصحاب تلك الشهادات معذور إلى حد ما، لأنّ المنظومة التي يعيشون ضمنها، والوهن الذي يحيط بهم يجبرهم أن يكونوا كذلك، فالطالب أول ما يسأل عنه النقطة والشهادة (الكرتونة) وآخر ما يتبادر إلى ذهنه التحصيل العلمي والشهادة (الوظيفة الحضارية)، فيركز على الأولى في اعتقاد – يداخله شرك – بأنها مصدر رزقه المحتوم، فيبذل – هو وأولياؤه – كل وسيلة للظفر بتلك (الكرتونة)، قبل تعليقها في إطار (كادر)، وقبل ذلك تعليق العمل بمحتواها، فكم من خريج محاسبة لا يعرف الفرق بين أصوله وخصومه، وكم من خريج أدب لا يدرك الفرق بين الأدب وقلّته، وكم من خريج علوم يخالف في تصرفاته حتى المنطق الصوري، وكم من خريج انسانيات لا يدرك قيمته كإنسان، وكم وكم!!.. إنّ الفرق بين الكادر الأول والكوادر الأخرى هو الذي صنع الفرق بين العالم الأول والعوالم الأخرى، لأننا حين نطالع حجم الاستثمار في التعليم العالي في مؤشرات التنمية العالمية، نعي المراحل التي صنعت تلك النوعية من الكوادر، والتي اعطت للجامعة الدور الأهم، في صقلها مواهبهم وتحرير مبادراتهم والاسترشاد بآرائهم والانقياد لأفكارهم.. (*) جامعة الجلفة