يظن البعض أن المرأة «القدوة» هي تلك التي تحتل المناصب العليا في الدولة ولكن الحقيقة مغايرة تماما لذلك، فما يعطيها لقب «القوة الناعمة» هي تلك البصمة التي تتركها في المجتمع الذي تعيش وسطه، اليوم نستعرض مسيرة سيدة رفضت الهزيمة أمام القدر، قاومت وناضلت ولم تستسلم بل زادتها العثرات قوّة لتحقيق الحلم والأمل في أن تكون من تريد وفقط، لطيفة بوستة واحدة من اللواتي روّضن الزمن ليستوعب طموحاتهن وأحلامهن. طفلة لا تقبل أقل من المرتبة الأولى طفولة عادية عاشتها لطيفة بوستة في بلدية «الصومعة» بالبليدة وسط عائلة تؤمن بأن العلم هو الوسيلة المحورية والأساسية لتحقيق الذات والإرتقاء بها نحو مستقبل مشرق ومشرف، كانت الدراسة بالنسبة للأب مقدسة من برع فيها يضع على رأسه تاج التميز بل ويُقعده على سدّة قلبه ليكون الأفضل والأهم عنده. تلك المبادئ غرست في «لطيفة» الطفلة منذ نعومة أظافرها فكانت دائما متفوقة في مسار تعليمها لا ترضى بالمرتبة الثانية بديلا عن الأولى، كانت تبكي بحرقة عندما ينتزع منها أحد زملائها هذه المرتبة، لم تنكسر عزيمتها طوال مشوارها الدراسي وفي مختلف الأطوار الدراسية، فعندما التحقت بالثانوية قرّرت اختيار شعبة رياضيات حتى تتمكّن من تحقيق حلمها في أن تكون قائد طائرة تقودها في سماء لا حدود لها وأفق يأخذها إلى ما وراء الإنسان لتجد أمامها ما لا يمكن لك وصفه أو رسمه أو كتابته. كانت لطيفة تعلم جيدا أن الحلم يحتاج إلى جدّ واجتهاد لتحقيقه لذلك كانت تستأثر بفترة الفسحة في الثانوية لحل بعض التمارين فتربح بذلك دقائق ثمينة في التحضير لشهادة البكالوريا التي كانت أول باب ستفتحته في طريقها لتحقيق حلمها، ولكن للحياة مفاجآت غير منتظرة، لأنها رغم اجتهادها لم تتمكن من الحصول على شهادة البكالوريا سنة 1990. فشلها لم يثنِ عزيمتها بل قرّرت إعادة السنة ولكن في هذه السنة غيرت الشعبة إلى علوم طبيعية، وكان انتقالها إلى خالها الذي كان يقطن بوسط مدينة البليدة حافزا أخر لها، خاصة وأن ابنته كانت هي كذلك تعيد امتحان البكالوريا غير انها اختارت تغيير شعبة الرياضيات بالأدبي، فنجحت هي ورسبت لطيفة التي لم يمنعها حزنها من الفرح مع ابنة خالها والشعور بالسعادة لنجاحها. صدمة الرسوب في شهادة البكالوريا جعلها تترك مقاعد الدراسة وتتوجه إلى الحياة العملية، فاجتازت مسابقة للمراقبين التربويين وامتحان في الشبه الطبي على مستوى المستشفى العسكري عين النعجة ولم تنجح في افتكاك أحدهما، ولكن شخصيتها التي ترفض الركون والبقاء على الهامش، أعطتها القوة للالتحاق بمركز للتكوين المهني تخصص حلاقة في 1994، وبعد سنة واحدة فقط اضطرت إلى التوقف عن مواصلة مشوارها في هذا المجال. سوق اهراس... بداية رحلة العودة في 1995 وبسبب الظروف الأمنية فضّل والد لطيفة إرسالها للعيش بولاية سوق اهراس عند عمها المجاهد والعسكري الذي انتقل الى ولايته الأم بعد تلقيه تهديدات بولاية البليدة، وهناك اتجهت الحياة ب»لطيفة» إلى منحى آخر سيكون السبب في استرجاع حلمها الذي طالمها شغلها في صغرها. هناك لم تغير هذه الفتاة من طبعها والتحقت للعمل كإدارية في نادي ثقافي، تميزها لفت الأنظار إليها وكان السبب في اعجاب أحد العائلات بها التي طلبت يدها لابنها لتتم مراسيم الزواج وتبدأ مرحلة جديدة من حياتها. تزوجت لطيفة وأنجبت طفلتها الأولى في 1997، وبعد سنتين انتقلت الى العاصمة بسبب التزامات مهنية أجبرت زوجها على الاستقرار هناك، عند بلوغ ابنتها سنّ التمدرس كان عليها تغيير مقر سكناها واستئجار شقة في زرالدة حتى تكون المدرسة قريبة من البيت، في تلك الأثناء ووسط كل الواجبات الأسرية كزوجة وأم لأربعة أبناء وربة بيت لم تنسى «لطيفة» حلمها في اجتياز شهادة البكالوريا وبالفعل حاولت مرة أخرى في 2001 و2007 ولكن لم يحالفها الحظ رغم تحصلها على معدل يقارب العشرة،...الإصلاحات التي طرأت على البرنامج الدراسي جعلها تتردّد قليلا في الترشّح مرة أخرى وفضّلت عدم المغامرة للاطلاع على التجديدات أولا. قالت «لطيفة» إن استفادة عائلتها من شقة في 2009 كان بمثابة صفحة جديدة في حياة مليئة بالنجاحات التي طالما راودتها وسعت إلى تحقيقها، فقد نجحت في مسابقة للمراقبين التربويين ما جدّد داخلها الرغبة في تحقيق ما فشلت فيه منذ ما يقارب العقدين من الزمن، واشتعل داخلها رماد انطفئ لهيبه منذ سنوات خاصة بعد نصيحة زوجها لها بأن تستعين بالدروس الخصوصية لاستيعاب البرنامج الجديد. وبالفعل خرجت في 2012، للبحث عن حلمها فساقها القدر إلى مدرسة خاصة بالقليعة، وهناك طلبت منها المديرة الاشراف على قسم الحضانة وفي نفس الوقت كانت تتلقى دروس تدعيمية في المواد الأساسية لشعبة آداب، واجتازت امتحان البكالوريا للسنة الدراسية 2012 - 2013 ولكنها لم تتحصل على الشهادة فقررت عدم اجتيازه في 2014. واجه قرارها هذا الرفض من ابنتها التي كانت من طلبة البكالوريا في 2015 حيث حجتها ألا تجتازان الامتحان في نفس السنة، فما كان من «لطيفة» سوى الخضوع لرغبتها وسجلت كمترشحة حرة لبكالوريا 2014. بدأت لطيفة سنتها الدراسية تعمل في المدرسة الخاصة وتدرس في نفس الوقت ولكن توقفها عن العمل بعد الفصل الأول من السنة الدراسية 2013 - 2014، بعد رفض مديرة المدرسة السماح لها الخروج للحصول على كشوف نقاط أبنائها آخر الفصل الدراسي، سمح لها بوضع برنامج مدروس للمراجعة، كانت تنهض باكرا تحضر وجبة الغذاء وتخرج بعد اتجاه أبنائها إلى مدارسهم، ثم تتجه إلى النادي الثقافي بزرالدة للمراجعة وعند الحادية عشر تعود إلى المنزل تتناول وجبة الغذاء مع أبنائها لتعود الى النادي الثقافي بعد أدائها صلاة الظهر حتى الساعة الرابعة مساءً، لتعود مرة أخرى إلى المنزل مع أبنائها، الأمر الذي سمح لها بالتركيز أكثر على الدراسة. 2014.... الحلم يصبح حقيقة وهكذا كان الأمر حتى وصل يوم الحسم والفصل وكانت فرحتها لا توصف عندما هاتفتها عمتها لتخبرها بنجاحها في البكالوريا، قالت إن الدهشة عقدت لسانها وجعلتها تعيش حالة من اللاشعور يسيطر عليها خليط من الأحاسيس امتزجت فيها الفرحة بالحيرة، لم تعي منها سوى زغاريد الجارات واحتضانهنّ لها ومعانقة الأبناء الذين وجدوا أمامهم. اما هي جسدت الانسان في أسمى معانيه وقوته، واعطتهم درسا واقعيا في الإصرار والمثابرة. وصفت «لطيفة» اللحظة بأنها سعادة عارمة لأنها حققت أملها في الحياة وأنها لم تبقى أسيرة السن الذي لم يمنعها من بلوغ هدفها، ولأنها تمكّنت من اهداء والدها النجاح الذي انتظره طويلا خاصة وأنه لم يبخل عليها بالتشجيع والمساندة طوال تلك السنوات التي مرت ببطيء تحمل بين جنباتها حلم الأب وأمل الابنة، قالت أن أختها عندما اخبرته بنجاحها امسك الهاتف متصلا بكل معارفه ليبشرهم بالنبأ السعيد. التحقت «لطيفة بالجامعة واختارت لنفسها قسم التاريخ الذي وجدت فيه حكاية الانسان وتفاصيل حياته، واستطاعت ان تكون مع المتفوقين ليتراوح معدلها طوال سنوات دراستها الأربعة بين 12و13 فكانت للكثير من زملائها قدوة ومثال لإصرار يرفض الهزيمة مهما طال الزمن. هي اليوم طالبة سنة أولى ماستر تخصص تاريخ الجزائر المعاصر وعون إدارة متعاقدة بكلية العلوم الاجتماعية، اين وجدت استاذة «حمّان» دكتورة في علم الاجتماع ونائبة عميد الكلية المكلفة بالبيداغوجيا والتي ساعدتها كثيرا بعد ان اخبرتها «لطيفة» بقصتها فقد قالت لها أستاذة «حمّان» انها لن تتوانى في تقديم المساعدة لكل شغوف بالعلم واشترطت عليها معدلا لا يقل عن ال 12 في السنة، فكانت بذلك المثال الحقيقي للأستاذ الذي لا يدّخر أي شيء في سبيل تمكين الطالب من العلم. زوج ساندها إلى آخر رمق وأب آمن بتفوّقها «لطيفة بوستة» اليوم تنافس ابناءها على أحسن معدل، تطمح الى مسار أكاديمي لا تحدّه حدود السن لأن العلم إناء لا يروي الناهل منه فكلما شرب منه المرء زاد عطشا،...تُلقن ابناءها في جلسة العشاء «المقدسة» ان الحياة بذل وعطاء، والأمل نحققه بكسراتنا المتكرّرة لأنها تعلمنا كيفية النهوض من سقطاتنا وطريقة شقّ شعاع النور طريقه في العتمة المظلمة. «لطيفة بوستة» في مشوارها الحافل لم تنهزم امام العقبات والعثرات بل آمنت بأنها ستتمكن يوما من بلوغ هدفها، طريق مشت فيها بكل ثقة كان رفيقها فيها أب آمن ب» لطيفة» المتميزة بتفوقها وزوج جعلته مساندته المعنوية لها أحسن زوج في العالم كله، وأبناء كانت «لطيفة» الأم بالنسبة مصدر فخرهم واعتزازهم طوال الوقت.