ودع العام 2011 ساحة الزمن مخلفا دروسا ذهبية لكل الدول التي تملك الارادة كي تحسب في عداد الدول الحية بين الأمم . وأتى الربيع العربي الذي شغل الناس طول العام الذي انصرف حافلا بالعبر تصلح لأن تكون خريطة طريق للجميع بما في ذلك الدول العربية التي لم تشهد ربيعا كالذي شهده غيرها . واختتمت السنة على تقارير دولية أجمعت على خلاصة واحدة : لقد استجابت الاقتصاديات الهشة بقوة لحقائق الاقتصاد بما في ذلك الاقتصاديات الصناعية ، وفقط الدول الناشئة سلمت من اتجاهات الاقتصاد التي ميزت العام 2011. فماذا يعني أن تخسر دول رهانها الاقتصادي في حين تحصد دول أخرى نقاطا ايجابية بغض النظر عن سير الأحداث ؟ وماذا ينتظر من عام جديد تراجعت في يومه الأول عملة اليورو الى أدنى سعر لها منذ عام ونصف ؟ الربيع العربي خريف الاقتصاد لوحت الادارة الأمريكية بقطع المساعدات عن القاهرة إن هي استمرت في عمليات التفتيش التي طالت مكاتب المنظمات غير الحكومية في مصر الأسبوع الأخير من 2011 . قرار إن نفذ سيحرم الخزينة المصرية من ايراد متوسط قدره مليار دولار سنويا ولكنه لن ينفذ مادامت السلطات المصرية أبدت بعض المرونة في معالجة الموضوع بعد أن تعهدت باحترام تعهداتها بشأن أمن اسرائيل ومصالح واشنطن في المنطقة ، ولكن في ذلك درس مهم للدول التي تتكئ على المساعدات الخارجية في تمويل اقتصادها مثل الأردن واليمن ولبنان . وكلما كان الارتباط قويا ومتينا بين اتجاهات الاقتصاديات الوطنية والتمويل الخارجي كلما خسرت القرارات السيادية بعض مفعولها ورهنت حكومات التحول الديمقراطي نفسها بين يدي مراكز القرار الخارجية . وفي حالة الربيع العربي تواجه الحكومات الجديدة في كل من تونس وليبيا ومصر تقاعس الاتحاد الأوربي عن الوفاء بالتزامه ببرنامج دعم دول جنوب المتوسط الذي أقره بنك الاستثمار الأوربي والمقدر ب 3.6 مليار يورو على خلفية الواقع السياسي الجديد لتلك الدول . وفي نفس الاتجاه ذكرت دراسة أخيرة للشبكة الأورومتوسطية للتنمية الاقتصادية أن العام 2011 شهد تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة المعلنة في دول الربيع العربي بنسبة 26 بالمائة لتتعمق بذلك حالة الركود التي أخرت تونس 5 نقاط على سلم النمو الكلي ، وأوقفت الاقتصاد المصري عند عتبة الصفر ، وأخرت الانتاج النفطي في ليبيا 5 سنوات للوراء ، ودفعت بالليرة السورية الى حافة الانهيار بمجرد الاعلان عن العقوبات الاقتصادية ضد دمشق . نعم تستجيب الاقتصاديات الهشة بسرعة للتحولات السياسية والاقليمية والمؤثرات الخارجية ، وكما هي الأنظمة الشمولية والعائلية والقبلية تنهار على وقع سقوط الحاكم فإن النظم الاقتصادية المبنية على الهوى السياسي والقرار الأجنبي هي الأخرى تتهاوى بتهاوي ذلك الهوى وذلك القرار . البرازيل وتركيا تتقدمان تقدمت البرازيل على سلم النمو لتحتل المرتبة الخامسة عالميا وفي ذلك هدية وداع العام 2011 ، وبذلك تتفوق على دول الاتحاد الأوربي جميعا عدا ألمانيا . وفي الطريق أيضا تركيا التي تعمل حاليا كي يحتل اقتصادها المرتبة التاسعة عالميا في غضون 3 سنوات من الآن بعد أن احتلت المرتبة الأولى من حيث تدفق الاستثمار فيها . وفي ذلك رد قوي على زعيمة صندوق النقد الدولي كريستيان لاغارد التي تنبأت لكل دول العالم بركود اقتصادي لا يبقي ولا يذر . والدرس في ذلك أن الاقتصاد المبني على الموارد الوطنية وثقافة الأمة وعلى رؤية علمية واسعة الأفق لحقائق وسنن الاقتصاد هو وحده الذي يستحق أن يسمى اقتصادا وأن غيره تجارب انسانية تخطئ أكثر مما تصيب . فتركيا طبقت الوطنية الاقتصادية المبنية على استراتيجية " أوغلو " في وصف تركيا التركية ، وطبقت البرازيل نموذج فريد في السياسات الاقتصادية قد يكون له شأن خلال القرن 21 هو الاقتصاد المبني على قيم أمريكا اللاتينية المضادة للتوسع الرأسمالي والمنافحة عن الاستقلالية في إدارة الاقتصاد . وبسرعة البرق تحولت تركيا من دولة مستوردة لكل منتج الى دولة نمت فيها الصادرات العام 2011 بنسبة 18 بالمائة حسب آخر تقرير لوزارة الاقتصاد التركية لتلامس سقف 111 مليار دولار ليس منها برميل نفط واحد، وتقدمت البرازيل لتنافس ملكة الصناعة من غير منازع ألمانيا . والقادم أعظم دشن العام 2012 أيامه الأولى بخبر تراجع اليورو الى أدنى سعر صرف له في عام ونصف أمام العملات الدولية ، تراجع سيكون له تداعيات أليمة على كل الشركات الأوربية المندمجة في الاقتصادين الأمريكي والآسيوي حيث ستبدأ هذه في احصاء خسائرها بشكل يومي ، وستغادر الاستثمارات المحلية والأجنبية منطقة اليورو الى مناطق أكثر استقرارا في آسيا وأمريكا اللاتينية وربما الى دول الربيع العربي بعد استباب الأمن والاستقرار السياسي فيها . مشهد سيعمق من أزمة الركود الآخذة في التفاقم في القارة العجوز ما يهدد الدول المصدرة للنفط بتراجع الايرادات وبالتالي تراجع هامش مناورتها للرد على الطلب الكلي الداخلي ولا يعني ذلك تأثيرا مباشرا في المدى القصير على الدول النفطية الغنية بالنقد الأجنبي لديها . العام الجاري سيكون عام الاختبار للسياسات الاقتصادية الجديدة في منطقة اليورو أي السياسات المبنية على التقشف بدل ضخ السيولة وربما سيؤدي المشهد الى احتجاجات شعبية واسعة النطاق في كل مراكز الاقتصاد في أوربا . وفي واشنطن وبسبب شح ستعود أمريكا الى نموذج عسكرة الاقتصاد سلاحها في ذلك تجارة السلاح التي تدر على الخزانة ايرادات تقارن بايرادات النفط بالنسبة للدول النفطية وتسمح لها بتمويل الاقتصاد واطلاق الوظائف الجديدة . ولذا لا نستبعد أن توظف أمريكا الورقة الايرانية للدفع بدول الجوار الى السباق نحو التسلح بتكاليف أعلى من تلك التي ميزت حقبة الحرب الباردة بين موسكووواشنطن بسبب المحتوى التكنولوجي المتطور . وفي كل الأحوال سيعيد التاريخ نفسه ويتكرر مخطط مارشال التي مكن الرأسمالية من التقاط أنفاسها بعد حرب عالمية مدمرة هي الحرب العالمية الثانية .