تدهورت الأوضاع الأمنية في الساحل الإفريقي، وتحديدا بالدول الثلاث، مالي، النيجروبوركينافاسو، بشكل غير مسبوق. وتشير المعطيات الميدانية أن المنطقة تتجّه نحو مزيد من التصعيد في ظلّ استمرار نفس الاستراتيجية الأمنية المتبعة منذ سنة 2013، فيما بات مستقبل قوة برخان الفرنسية، محل تساؤلات. تعرضت قاعدة عسكرية للجيش النيجري، الأسبوع الماضي، لهجوم إرهابي دام، خلّف 71 قتيلا ومفقودين، لتسجل النيجر أثقل خسارة في صفوف قواتها المسلحة بمنطقة الساحل الإفريقي في تاريخها. وقبل هذه العملية، خسرت مالي 100 عسكري بين شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، كما تلّقت بوركينافسو ضربات موجعة، وتعرضت قرى وكنائس إلى هجمات قاتلة خلفت عشرات القتلى. خارطة الهجمات الإرهابية العنيفة والنوعية، المنفذة في هذه الفترة، توزعت على المناطق الحدودية للبلدان الثلاث، أي بالقرب من القيادة العملياتية لقوة مجموعة الخمسة ساحل المتواجدة أقصى غرب دولة مالي. وخلافا للسنوات الماضية، حيث كانت الأنشطة الإرهابية حكرا على جماعة إرهابية معروفة في المنطقة على غرار ما يسمى تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي، والتنظيم المشكّل من أربعة جماعات محلية يقودها الإرهابي إياد آغ غالي، دخل تنظيم «داعش» الإرهابي على خط المعركة بشكل مثير للتساؤلات. هذا التنظيم الذي نشأ على الحدود بين العراق وسوريا، وجد طريقه أخيرا إلى منطقة الساحل الإفريقي، وتبنى أعنف هجوم في النيجر أين قتل 71 عسكريا في قاعدة إيناتيس. ارتفاع الخسائر البشرية والمادية في صفوف جيوش دول المنطقة، يدل على خبرة الإرهابين المهاجمين وحيازتهم على أسلحة نوعية ومتطوّرة جدا، مكّنتهم من تنفيذ مجازر مماثلة بسرعة خاطفة في الإغارة والفرار إلى مناطق متاخمة. والسنة الماضية، كان أقصى ما تقوم به الجماعات الإرهابية، نصب كمائن بعبوات تقليدية ناسفة، أو تفجير سيارات مفخّخة أمام ثكنات الجيش المالي وقوات الأممالمتحدة لحفظ السلام المنتشر شمال البلاد. مجموعة 5 ساحل اضطرت دول النيجر، مالي، بوركينافاسو، التشاد وموريتانيا، إلى عقد قمة طارئة، الأحد الماضي، في نيامي، لبحث تداعيات هجوم إيناتيس، ومناقشة الاستراتيجية الأمنية التي يجب اتباعها لتحقيق فاعلية أكبر في مكافحة الإرهاب. القمة العاجلة، في حقيقتها كان مقررا لها أن تعقد في عاصمة بوركينافاسو، واغادوغو، للرد على دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعقد اجتماع في 16 ديسمبر الجاري، بمدينة «بو» لاستيضاح موقف الدول المعنية من قوة برخان. وقرّر قادة البلدان الخمس، الاجتماع فيما بينهم كتعبير عن «رفض» الطريقة «غير الدبلوماسية» و»غير اللائقة» التي تحدث بها ماكرون على هامش قمة الحلف الأطلسي. وأثارت تصريحات ماكرون، جدلا واسعا لدى شعوب منطقة الساحل الإفريقي، الذين اعتبروا ما بدر منه «ممارسة لوصاية استعمارية قديمة»، كون دعوته لنظرائه كانت أقرب إلى «الاستدعاء». وتفاديا لأي صدام أو حرج دبلوماسي، تذرعت باريس بهجوم إيناتيس، لتعلن عن تأجيل القمة إلى مطلع العام المقبل. وخلال قمة نيامي، بدا وضحا حجم امتعاض قادة دول المجموعة، من تصريحات الرئيس الفرنسي، حيث أكد رئيس بوركينافاسو شون مارك كابوري: «أن محاربة الإرهاب تحتاج إلى دعم دولي، مثلما هو معمول به في باقي مناطق العالم، لكن يجب أن يكون دعما على أساس الاحترام المتبادل». وتحاشى البيان الختامي لمجموعة الخمسة ساحل، التلميح لقوة برخان الفرنسية، لكنه ذكر في المقابل: «بمسؤولية المجموعة الدولية عن انعدام الأمن في الساحل، وأكد أن سببه انعدام الأمن في دولة ليبيا». وطالبت البلدان المعنية» المجتمع الدولي بانخراط أكبر في الحرب على الإرهاب في الساحل، ودعت إلى المشاركة في (الشراكة الدولية من أجل الاستقرار والأمن في الساحل)». وبدا واضحا من البيان، رهان المجموعة على الجوار الإقليمي وبالأخص دول غرب بإفريقيا من أجل الرفع من الكفاءة العملياتية في محاربة الإرهاب والتصدي لخطره المتصاعد. وطالبت باقي دول المنطقة ب «تعزيز التنسيق بين أجهزة الأمن والاستخبارات في مكافحة الإرهاب والجريمة عبر الحدود». وجاء في البيان أن دول المجموعة «أطلقوا نداء موجها إلى دول المنطقة (دول غرب أفريقيا) من أجل تعزيز التعاون ما بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، في مجال محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود». وأضاف: «أن البلدان أكدوا مضيهم في بذل المزيد من الجهود لتعبئة موارد ذاتية أكثر لمواجهة الإرهاب بمختلف أنواعه». وتأسست قوة مجموعة ال 5 ساحل سنة 2014، وقوامها 5 آلاف عسكري، (1000 عسكري من كل دولة)، وبدأت أول عملياتها أواخر سنة 2018، وتفتقد للموارد المادية واللوجيستية اللازمة. وسعت فرنسا، إلى اقتطاع قرار من مجلس الأمن، لاعتمادها كقوة تعمل تحت الفصل السابع للأمم المتحدة، غير أن الولاياتالمتحدةالأمريكية اعترضت على إصدار قرار مماثل بحجة تواجد القوة المدمجة للأمم المتحدة «ميونيسما» في شمال مالي وقوامها 1200 عسكري. باريس.. توتّر غير مسبوق مع تصاعد الهجمات الإرهابية في العامين الماضيين، انقلب الرأي العام الداخلي في مالي وفي كل المناطق التي تنشط بها قوة برخان، ضد التواجد العسكري الفرنسي. وحسب التقارير الإعلامية في مالي، فإن الجبهة الوطنية الداخلية، باتت مقتنعة بالدور السلبي الذي تلعبه فرنسا منذ 2013، إذ «أنها تتحرّك وفق أجندة لا تخدم السيادة الوطنية والوحدة الترابية لمالي». وأول ما سجل على باريس، هو سماحها لفصيل «حركة تحرير أزواد»، الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة بالجزائر، بالسيطرة على مدينة كيدال، أقصى شمال البلاد، مما حال دون ممارسة الحكومة المركزية سلطتها الكاملة على كافة الأقاليم. كما انتقدت باماكو، غياب التنسيق بين برخان والقوات المسلحة المالية، حيث لم تتدخل القوات الفرنسية لمساعدة العسكريين الماليين الذين تعرضوا لهجوم عنيف في قاعدة بولكيسي، ولم تتقاسم المعلومات الاستخباراتية بشأن تحركات الجماعات الإرهابية. وتتهم الطبقة السياسية في مالي، فرنسا بالتعامل مع بلادها بتعال وتبجّح، وتأكد ذلك سنة 2017، عند زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون، لقاعدة برخان بمدينة غاو، ولم يزر باماكو، واضطر الرئيس المالي ابراهيم بوبكر كيتا إلى التنقل بنفسه عند نظيره الفرنسي. ويرى متابعون، أن استمرار قوة برخان في المنطقة لم يعد يحقّق النتائج المرغوبة، في ظلّ تصاعد الهجمات الإرهابية، وتسلل عناصر داعش من الشرق الأوسط إلى المنطقة عبر ليبيا. تقوية الجبهة الداخلية تتويج بيان قمة مجموعة الخمسة ساحل، بالتأكيد على ضرورة تعبئة «القدرات الذاتية»، في مواجهة الإرهاب، يؤكد إدراك القادة السياسيين، لأهمية تقوية الجبهة الداخلية، وتعزيز الوحدة الوطنية. وفي أوضاع مماثلة، يعتبر الحوار الشامل الجاري في مالي، هذه الأيام، خطوة استراتيجية لترسيخ الوحدة الترابية والسيادة الوطنية والطابع الجمهوري للبلاد. وستكون مخرجات الحوار الذي تشارك فيه فصائل سياسية ومسلحة من مناطق الشمال، حاسمة في الحرب على التنظيمات الإرهابية، خاصة إذا ما تجسد برنامج إدماج مقاتلي الجماعات السياسية في صفوف القوات المسلحة النظامية.