عايشت الفترة الاستعمارية فترسخت في ذهنها منذ الطفولة مشاهد من الممارسات التي دأب عليها المحتلون في استغلالهم واحتقارهم للجزائريين، وبدل أن تركن للتقاعد وبالرغم من ثقل السنين إلا أن السيدة فاطمة زرهوني تبذل كل ما بوسعها من قدرات وإمكانيات لنقل ما عانت منه للأجيال من خلال الكتابة والرسم والمشاركة في البرامج ذات الصلة بالذاكرة لتفضح بطريقتها الأدبية والفنية أولئك الغزاة وتنير للأجيال الناشئة حقائق تلك الحقبة بجزئياتها. منذ 1958 امتهنت التعليم في مادة اللغة الفرنسية بالعاصمة بلكور بالدقة ومبكرا لاحظت كيف أن أطفال الجزائر كانوا يقاومن بطريقتهم بترديد الجزائر جزائرية فلم تكن تبخل عليهم بالعلامات الجيدة. اكتشفت سريعا انه بالرغم من التعايش معهم إلا أن الاندماج مع الكولون لم يكن كذلك. كانوا يمقتوننا تقول ابنة عامل بالسكك الحديدية. وكان التعليم وإفهام التلاميذ بان العلم هو السلاح الحصين. كانت المعلمة الجزائرية الوحيدة بالمدرسة وأكدت لمديرها من الأقدام السوداء الذي كلفها بقسم من حوالي 50 تلميذا جزائريا من مختلف الأعمار أنها ترحب فكان الخطاب معهم مباشرا.. يا أبناء إننا تحت الاحتلال وإذا ارتم الاستقلال عليكم بالاجتهاد في القراءة والحساب. كانت تقدم الدروس في وعاء نضالي ينير الطريق. تتذكر بشكل يبعث على الفخر كيف أن التلاميذ كانوا يرددون نشيد من جبالنا. المعلمة الشابة ذات الهيئة الأوروبية في نظر تلاميذها سرعان ما احتضنوها وهي التي تشتغل لساعات إضافية وتحضر أوراق الرسم. من الرسوم التي برزت بشكل ملفت رسوم تحمل العلم الوطني الذي يعد مفخرة الشعب الجزائري برمته. بعدها انتقلت إلى مدرسة ببابا علي ببئر توتة. التنقل كان بالحافلة وزادها اعتزازا العمل بالقرية. دون أن تعلم قام احد المجاهدين بحمايتها من اعتداء مبيت لأحد الحركى. بسرعة نالت ثقة السكان وكان والدها يوصيهم بالاعتناء بابنته. واستمرت رحلتها بينما كانت الثورة تؤسس لمستقبل قريب تطلب تضحيات لتحط سنة 1960 بالثنية مينيرفيل حينذاك. استقبلها ثلاثة تلاميذ قدموا لها قطعة بصل وست بيضات. هدية تضحكها إلى اليوم. كانت تقيم بينهم وتغادرهم مع الوالد في نهاية الأسبوع. ولم تنقطع هواية الرسم الذي كان بمثابة فترات علاج مع الأطفال في تلك الظروف من قهر واحتقار استعماري. في تلك المنطقة انخرطت عفويا في العمل الثوري فكانت تستلم من المجاهدين مناشير الثورة لتقراها على القرويين، فيما لا تبخل على النساء بكتابة رسائل لأزواجهن في الغربة وبالطبع لا يخلو الحديث عن الثورة والاستقلال المنتظر. حيويتها واندفاعها القوي لكسر ثقافة الانهزام التي كرستها الإدارة الاستعمارية بمختلف الأساليب منها إقصاء البنات من المدرسة لتبقى مجرد قوة عمل دون تكلفة حفزتها للأخذ بيد البنات ومرافقتهن في اكتساب العلم والمعرفة. كانت لا تحتمل ما يقوله مدير المدرسة العنصري من أن بنات الجزائر يصلحن للشغل فقط وإعداد الكسكسي وفي هذا قمة التمييز العنصري. مسار كله مقاومة على طريقتها برفض الاندماج ومقارعة المحتل بنشر العلم في أوساط جيل أطفال نوفمبر إلى أن سطع فجر الحرية التي لا ولن تغيب شمسها عن بلادنا وشعبنا. وتستمر إرادة التحدي لمواجهة المستقبل ومنا يحمله. أملها أن تنقل باستمرار شهادتها عن تلك الحقبة وليس أفضل من الطفولة وهي عالمها الخاص لغرس الحقائق من خلال الرواية والرسم والكتابة الشعرية. في الذكرى الخمسين لاسترجاع السيادة الوطنية لا تتردد إذا منحت لها الفرصة في قطع المسافات للالتقاء بالأطفال عبر المدن والقرى حتى لا تتعطل الذاكرة. تعشق التراث الأصيل فتنقله في رسومات بمواد طبيعية مثل الصوف وأكياس غالبا ما ترمى في القمامة لتحولها بأناملها للوحات ذات قيمة فنية وتاريخية تتقاطع فيها عناصر الهوية الوطنية التي تحتضن الجميع. إنها لوحات بأشكال وألوان منسجمة وذات دلالات يقرأ منها الماضي ويضيء التطلع للمستقبل وفق منهاج الأصالة والانفتاح دون التنكر أو الانسلاخ.