تعتبر غرداية واحدة من الولايات الهامة والاستراتيجية في الجنوب الشرقي للبلاد مثلما اطلعت عليه ''الشعب'' في الاستطلاع الذي قامت به، حيث يطلع الفرد على الكثير من البرامج التنموية في إطار تنمية الهضاب العليا والجنوب الكبير التي برمجتها الدولة لتدارك التأخر في الاستجابة لتطلعات المواطنين.وتتميز غرداية بحكم تاريخها الذي يعود إلى القرن العاشر ميلادي بتقاليد ونمط معيشي مبني على القيم الدينية ونظام العشيرة أو ''العزابة''، كما هو متعارف عليه، وتعد أيضا منطقة مشجعة للاستثمار وخلق ومقصد سياحي هام وهي عوامل تؤهل الولاية رقم 47 لأن تكون قطبا مستقبليا لخلق توازن جهوي. الحديث عن ولاية غرداية العتيقة يحمل الأذهان مباشرة إلى صورة القصور المتراصة بمساكنها المبنية بالطوب والجير وجذوع النخيل والمتواصلة بينها بواسطة دروب وأزقة تقود كلها من ساحة السوق بالأسفل من جهة إلى المسجد ذو المئذنة ذات 144 سلمة على حسب عدد صور القرآن الكريم، والذي يعلو القصر من جهة أخرى. والحديث عنها يستوقفنا أيضا عند الطابع المعماري الذكي والبسيط في نفس الوقت والذي يمزج بين تلبية الحاجة والابتعاد عن كل الرفاهية والكماليات التي قد تشغل مواطن وادي ميزاب عن عمله وعبادته. لكن الداخل اليوم إلى المدينة والقادم إليها بصفة خاصة عبر الطريق الوطني رقم 01 الذي يربطها شمالا بالجزائر العاصمة على بعد 600 كلم، يستقبله وجه المدينة الجديد، بمشاريع تنموية تدخل في إطار المخطط الخماسي للتنمية المستدامة والذي سنّه رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة والذي يخص مناطق الهضاب العليا والجنوب الكبير. وتستقبله أيضا الأحياء السكنية الجديدة، ذات الطابع المعماري المستوحي من هندسة المدن والقصور السبعة التي تشكل مفخرة غرداية ورمز تاريخها الثري. فهذه الأحياء الجديدة التي أصبحت تطوق المدينة الأم من عدة جوانب تحجب وتخفي نوعا ما القصور القديمة بمآذنها المتطابقة الشكل، شيدت مساكنها على شكل مساكن فردية، تفصل بينها شوارع مرصوفة ومعبدة، تشمل على الإنارة العمومية، غير أنها وكالعديد من المجمعات السكنية الحديثة على كامل التراب الوطني، فهي لا تحتكم على معظم المرافق الحيوية والترفيهية والتي من شأنها أن تشد إليها قاطنيها وخاصة الشباب منهم. وتتركز أكثر الحياة في وسط المدينة أين تكثر المحلات العصرية ومكاتب المؤسسات العمومية ومحلات الخدمات المتعددة، وتدب حتى ساعات متأخرة من الليل وخاصة بالنسبة للمقاهي والمطاعم ومحلات بيع الوجبات السريعة. وتكثر الحركة أيضا صبيحة كل يوم في أسواق القصور العتيقة، غرداية، العطف، مليكة، بنورة، بريان، بن يزقن، والقرارة (وتدوم لينفض البيع والشراء بعد صلاة المغرب، فيما تتميز كل المنطقة بجانبيها الحضري والعتيق بامتثال سكانها إلى تقليد القيلولة، وخاصة في الأوقات الحر الشديد، أين تبدو الأحياء وكأنها في سبات عميق. تعرف غرداية أكثر بطابعها السياحي إذ تشكل واحاتها الغناء ومعالمها التاريخية والدينية وتمورها وصناعاتها التقليدية، وخاصة الزرابي خاصتها محط اهتمام الزوار والباحتين من داخل وخارج البلاد، غير أن موقعها الاستراتيجي يؤهلها لأن تشكل منطقة عبور ومركز تنموي هام وهمزة وصل بين دول الهضاب العليا والجنوب، إذ يحدها من الشمال كل من ولايتا الأغواط والجلفة، ومن الغرب ولايتا البيض وأدرار، ومن الشرق ولاية ورقلة وأخيرا ولاية تمنراست من الجنوب. وهي اليوم كما كانت في القرون الماضية منطقة تجارية هامة ومحطة لوقوف القوافل القادمة من وإلى إفريقيا، المغرب العربي والمشرق . تأخر في تهيئة مجاري الأودية وتحسين الطرقات لا يمكن إنكار أن ولاية غرداية تشهد اليوم عدة مشاريع تنموية هامة، من السهل الوقوف على البعض منها، وخاصة تلك المتعلقة بفتح الطرق وإعادة تهيئة مجاري الأودية العديدة التي تجتاز المدينة وحماية المباني القريبة منها، غير أن هذه المشاريع لا تتقدم بالوتيرة التي ينتظرها المواطنون، حيث اشتكو من تأخر انجاز العديد منها. وتزامن وجودنا في المنطقة وقيام السلطات المحلية بإزالة الأسواق الفوضوية المنتشرة بمحاذاة وادي غرداية بوسط المدينة وهي التي كانت تشوّه المنظر العام للمدينة وتخلف وراءها نفايات زادت من تدهور حالة المحيط. وعرفت الولاية توسعا عمرانيا بالقصور والمدن القديمة مند التسعينات كمدينة بني يزقن ومليكة وبنورة على برامج فريدة من نوعها، حيث شيّدت المساكنالجديدة بمساعدة الدولة من جهة ومساهمة المستفيد وإلى جانب مشاركته في أعمال البناء حين يسمح وقت فراغه بذالك، فحسب ما أوضحه لنا دليلنا قي المنطقة بشير قرقور. وللتذكير فقد استفادت الولاية جراء فيضانات الفاتح أكتوبر 2008، والتي مسّت تسع بلديات، مخلفة ورائها أزيد من 40 قتيلا وخسائر مادية جسيمة من برامج انجاز 5000 لإعادة إسكان المنكوبين من بينها 3000 وحدة ريفية، وقادتنا جولتنا في اليوم الثاني إلى مشارف مدينة بنورة أين تقع المنطقة الصناعية والتي شهدت حسب مرافقنا عصرها الذهبي في السنين السابقة ''أين كانت تحتل الرتبة الثانية من حيث الأهمية والنشاط، بعد منطقة حاسي مسعود''. انتشار النفايات المنزلية شوّه صورة المدينة لا تستثنى اليوم غرداية الحديثة ولا حتى أطراف قصورها المحافظة من ظاهرة رمي النفايات والمزابل العشوائية، التي أصبحت تشوّه البيئة الجميلة التي صنعت سمعة غرداية كمدينة سياحية نظيفة. واستنكر الجامعي والباحث المختص في الأرشيف مصطفى بامون، حيت صرّح لنا ''أن الظاهرة أصبحت تأخذ أبعادا خطيرة، وهي اليوم في طريقها إلى المساس بصورة غرداية الجميلة والمتجانسة مع محيطها الطبيعي''. وأضاف مصطفى الذي يسكن مدينة مليكة، أن المسؤولية تلقى على عاتق السكان الذين تخلوا عن حسهم الحضري، وأصبحوا يهملون واجباتهم ومواطنتهم ولا يبالون البتة بمحيطهم، بل يعمدون إلى تلويثه والإخلال بتوازنه عن طريق رميهم قاذوراتهم على قارعة الطريق وحتى في الأماكن التي كتب فوقها بالبند العريض: ''ممنوع رمي الأوساخ''. واستنكر في ذات السياق، ''عدم تحرك السلطات المحلية لأخذ التدابير اللازمة ولإيجاد الحلول الناجعة للمشكل، كسن قوانين صارمة تعاقب من يتعمد تلويث المحيط وعدم الاكتراث للحفاظ على مدينة نظيفة ''. ''بني يزقن'' جوهرة يتهدّدها الإهمال تعاني بعض الأحياء العتيقة مثل تلك الرابطة بين مدينة بني يزقن وبساتينها، من صعوبة التجول بين أزقتها وفوق المسالك المؤدية إليها والتي هي اليوم في حالة يرثى لها، إهتراء، حفر وغبار وبرك للمياه الراكدة، تعكر صفو المواطنين الذين تكثر حركتهم فيها، إذ أن سكان غرداية يقبلون بكثرة على مساكنهم الصيفية المبنية داخل بساتين النخيل الغناء، هروبا من الحرارة المرتفعة. ولا يخفي بعض المواطنين استيائهم من تأخر البلدية في تعبيد هذه المسالك وتهيئتها، وخاصة فصل الشتاء على الأبواب. إن التسول ممنوع منعا باتا عند أهالي وادي ميزاب، إذ يعتبر إهانة كبيرة للعشيرة وللعائلات وكافة سكان القصور، حيث يعتبر كل واحد منهم بحكم التقاليد نفسه مسؤولا عن الأفراد الضعفاء في المجتمع. وقد اعتمد الناس هنا مند القدم أسلوبا ناجعا للقضاء على الظاهرة وشرح لنا هذا الأمر دليلنا بكير بوصوفة قائلا أن'' وجهاء و شرفاء المدن و القصور و كذا حلقة العزابة يجتمعون للنظر في شؤون المحتاجين من الشباب والمواطنين كافة، ويتطوع البعض لمساعدتهم، على إيجاد عمل أو مدهم برأس مال لمزاولة بعض المشاريع التجارية على شرط أن يردوا بالمثل عندما يطلب منحم مساعدة أناس آخرير يمرون بالظروف نفسها''. وإذا ينجح الآمر غالبا عندهم، تبقي غرداية اليوم تعاني من ظاهرة تسول بعض اللاجئين الأفارقة، الفارين من الحروب و النزاعات الأهلية في بلدانهم، والقادمين إليها طلبا للأمن والعيش بسلام. وتشهد الولاية مند السنة الماضية نزوح العشرات من النساء والأطفال الفارين حسب أهالي البلدة من ليبيا والذين استوطنوا هنا مند حوالي سنة. ويقضي هؤلاء القوم يومهم في التسول، لينتهي بهم المطاف ليلا أمام محطة نقل المسافرين البرية، أين تكثر حولها المطاعم ومحلات بيع الأكل السريع، حيت يقتاتون من ما يتصدق عليهم الزبائن وكذا أصحاب المحلات. ويتجول والأطفال النسوة بين أسواق المدينة حافيين الأقدام، يحمل كل واحد منهم آنية معدنية، ويردد كلمات ''صدقة، وللّه''، لكونهم لا يتقنون اللغة العربية. وككل ولايات الجنوب الكبير أصبحت غرداية اليوم محطة عبور يقصدها العديد من المهاجرين القادمين من دول الساحل ومناطق أخرى من أفريقيا، والراكدين وراء حلم الوصول إلى دول أوروبا، وإفتكاك فرصتهم في العيش الكريم . وفي انتظار أن تسمح لهم الظروف بالتحرك نحو الشمال يجني هؤلاء قوت يومهم بامتهان تجارة الهواتف النقالة في السوق السوداء أو العمل كأجراء عند سكان المنطقة في مجال البناء وفي بساتين التخيل، كما يشهد للعديد منهم بالأمانة والتفاني وإتقان الأعمال المسندة إليهم. نشاط جمعوي مكثف ساهم في الحفاظ على التماسك الاجتماعي إن الملفت للنظر في مدن وقصور غرداية وكذا داخل توسعاتها العمرانية الجديدة هو اهتمام سكانها وخاصة الشباب بالحياة الاجتماعية إذ توجد بمدينة بني يزقن وحدها أكثر من 60 جمعية ولجنة حي، تهتم خصيصا بمتطلبات الحياة اليومية للسكان، بالحفاظ على التراث وعلى معالم المدينة، فضلا على الجانب الرياضي والثقافي وكذا السياحي. ولا يقل الشيوخ عزيمة عن الشباب، فالكثير منهم يولي اهتماما خاصا بالنشاط الجمعوي، ويجتهد للحفاظ على العادات والتقاليد العريقة للمنطقة. ولكن الجميل أن نرى شباب وادي ميزاب وسكانه جد متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم، حيت لا يتخلى الرجل منهم شابا أم كهلا عن اللباس التقليدي، كما تمسك المرأة بدورها بالحاف الأبيض ذو السبعة أمطار طول والذي يجعل منها حين تلبسه حمامة بيضاء تتنقل بكل حرية في أنحاء البلدة دون أن يعترض طريقها أحدا.