حكت لي والدتي الحكايات والأساطير، غير أن حكاية جارتنا فاطمة كانت الأروع على الإطلاق، منذ ان فتحت عيني ووعيت على الدنيا وانا اعرفها قوية صابرة لا تشتكي من قلة ولا تتذمر من فقر او عوز، عكس بنتيها اللتين كانتا كلتاهما كلها رقة وعذوبة وجمالا انوثتهن سبقت سيرتهن، فاطمة ولدت بأعالي جبال الأوراس ذات شتاء قارص، كان غذاء والدتها ما تجود به أشجار البلوط والصنوبر والسنديان، او بعض الحشائش وفي أحسن الأحوال التلغودة، كانت امها الأمازيغية اللًسان، تذوقت فاطمة مرارة الدنيا منذ طفولتها، لعبها في الغالب من حجارة وطين، او بقايا علب او قوارير، لم تعرف للمدرسة طريقا لأن المدارس كانت لأبناء المعمرين فقط ومن دار في فلكهم، كلما نزلت فاطمة إلى قرية مشونش تمتعت بالمناظر الجميلة: غابات النخيل والحشائش الخضراء والمياه الرقراقة، كانت بين الحين والحين تزور المدينة فعرفت أن هناك شيئا غريبا يحدث، إلى ان جاء اليوم الذي حضر فيه خالها عمار الذي قضى زهرة شبابه في حرب الهند الصينية (لاندوشين)، كان الخال عمار كل ليلة يحكي لها قصة، وكانت نفسها تهفو لوطنها كلما سمعت بهذه القصص البطولية... اقترح عمار ان تلتحق فاطمة بمستوصف القرية علها تتعلم عملا ينفعها في حياتها، وافقت فاطمة والتحقت لتتعلم التمريض، فالتقت بخديجة اقدم ممرضة، إلا ان خديجة كانت قليلة الكلام كثيرة العمل، ولم تكن خديجة تحدث احدا، إلا أنها إستأنست بفاطمة التي اعجبت بها أيما إعجاب، وتوطدت العلاقة بينهما لتخطبها لابنها المهاجر محمود، وافقت فاطمة وتزوجت محمودا فكانت صديقة لخديجة وكنة مطيعة، عاشت فاطمة في بيت خديجة حيث كان بيتا طينيا عند سفح الجبل مقابل الوادي، وذلك المشهد الجميل الذي تميزه أشجار النخيل وأزهار الدفلى التي تملأ الوادي والحقول، كانت رائحة البارود واجتماعات الثوار تملأ أركان هذا البيت المتواضع وقد كانت السلطات الفرنسية تضع حراسة مشدّدة على هذا البيت المجاهد. وذات ليلة ظلماء، هاجمت جيوش المحتل ذلك البيت لتعتقل خديجة، إلا ان فاطمة ولحسن حظها تسللت بين الصخور لتلتحق بالثوار الذين كان من بينهم خالها عمار، الذي رحب بها وخصص لها مكانا في كهف صغير وهي الحامل في شهرها السابع، اما زوجها فقد كان بفرنسا، وقد سمع بالحادثة فأسرع بالحضور، فوقف على آثار البيت المهدم ولم يجد بدا من الصعود الى اعالي الجبل... التحق محمود بفاطمة التي كانت على اهبة الوضع، وجاء اليوم الموعود لتضع مولودة كالقمر، فسمتها حورية تفاؤلا بحرية الجزائر. وكم كانت فرحة محمود بحورية كبيرة، ولكن كان قلبه يخفق باسم أمه التي توجد بالمعتقل، إلى أن جاء ذلك اليوم الحزين الذي حمل نبأ إستشهاد خديجة بالمعتقل، فعم حزن شديد كل أرجاء القرية، وكان اسم خديجة من نصيب البنت الثانية وكانت فرحة فاطمة عظيمة ببنتيها وهي الممرضة التي تسهر على رعاية الثوار وتمريضهم، ويكون ثالث حمل لفاطمة حاملا لبشائر مولود سمي مسعودا تيمنا بوالد محمود الذي لم يلحق به... وجاء اليوم الحزين في حياة فاطمة من سنة 1961، حيث كان يوما تاريخيا هاجمت فيه فرنسا هذه الخلية من الثوار بالطائرات والمشاة.. وكانت الحصيلة مؤلمة، إذ استشهد أكثر من عشرين شهيدا، من بينهم خالها عمار وزوجها محمود، فكانت مرارة ذلك اليوم لاتعادلها مرارة، نزلت فاطمة الى القرية ومنها الى مدينة بسكرة لتلجأ الى صديقتها الفرنسية التي تقطن في الحي الفرنسي والتي تعرفت عليها في المستوصف، استقبلتها صديقتها بحفاوة وآوتها معها، وإستانست بها، كانت فاطمة تحت الصدمة، تتجرّع مرارة أحزانها ومرت السنوات سريعة لتسمع زغاريد النصر إلا أن فاطمة كان يملأ قلبها حزن عميق وهي التي فقدت كل من تربطها به علاقة عائلية أو ثورية.. غادرت صديقتها الفرنسية الجزائر لتتنازل لها عن البيت المتواضع وتودعها في يوم كئيب حزين، أما خالتي فاطمة فعاشت في ذلك البيت كالغريبة، ولم تجد من يقدم لها يد المساعدة، وحتى من يشهد لها على عملها الفذ لأن الجميع قد إستشهد ومات، هاهي الآن تشارف على السابعة والثمانين من عمرها وقد ربت ابناءها على الشرف وحب الوطن ، هي الآن أم لمعلمة ومحامية ومهندس ولكنها مازالت تسترجع شريط الذكريات الحزين فاطمة التي عاشت حياة حزينة لم تسعد يوما في حياتها تعيش على آمل ان يسعد أبناؤها بنعيم الحرية وللجيل الجديد كله حياة عنوانها حريتي خير لي من كل شيء في حياتي.