لماذا لم تعد تطربني قصائد الشعراء، لماذا صارت مدينتي كئيبة كلون الغيم القاتم، لماذا غاب المطر وحل الجفاف، وعم الجفاء، لماذا غادر النورس والسنونو والحسون وحتى الخفافيش تلك الحديقة التي كانت بالأمس القريب تعجّ بالزقزقة والتغريد.. لماذا انقطع البلبل عن التغريد، لماذا لم يعد عيدنا سعيدا وتفرقت بنا السبل.. أتذكر أننا بالأمس القريب كنا نضحك ملء أشداقنا داخل تلك الغرفة الضيقة، ونلهو ونمرح في ساحات الحديقة الجميلة ونمارس شيئا أقرب منه إلى التصوّف.. كانت القهقهات لا تنقطع وكانت العزة وحب الانتماء تملأ كل القلوب، وفجأة..! ليت تلك اللحظة ما كانت لتكون تحرّك ذلك السحاب الأسود، ليعمّ سماء المدائن ويعرج بظلاله الحزينة على سماء مدينتنا وتعلن مدينتنا حدادا مفتوحا، نغص الفرحة البريئة التي كانت وأحال كل هامش للفرح على الأرشيف الذي لا تدركه الأرواح.. غابت الفرحة وغاب المداح وحتى صاحب البوق الذي كان يجوب الشوارع يحمل عزاء الأحبة صار نسيا، غاب عازف العود، ورجل المنابر وغاب ذلك الطفل الكبير وحارس باب الخوخة وغابت الفطائر الساخنة ورائحة التوابل وعطر البخور وصاحب الطبل والدف وعازف الناي والمزمار.. وغاب الطعم الجميل الذي ألفناه، لتبقى تلك البناية الضخمة كأنها جثة هامدة تتوسّط المدينة الحزينة التي كانت بالأمس القريب تفيض بشرا وفرحا لا ينقطعان.. أطوف بالشوارع وبالساحات غريبا حزينا.. أحقا هذه هي مدينتي أم أن الكابوس أحالها على رتابة اللحظات ورهبة السكون وعتمة الليل.. هل كانت كمشة الدنانير سببا في كآبة المدينة؟ أم أن قلوبنا صارت أضيق مما نتصور..؟ كم كان المنظر جميلا ونحن نتسارع من أجل رسم لوحة جميلة بقلوبنا البيضاء وبألوان الحب والعطاء، لم يبق للمدينة غير الصبية على براءة قلوبهم الصافية النقية، وهم يحاولون بأقلامهم البريئة أن يعيدوا للمدينة شيئا من الماضي السعيد، لأن الكبار (عفوا) تاهت بهم سبل الحياة وجمع الفتات... حقا ضاقت النفوس وهاجت بي الذكريات وأتذكر كلامك يا فؤاد، حينما نظرت إلى السماء ذات مساء شتوي بارد وأنت تقول سرا وعلانية: لماذا غاب هطول المطر على مدينتنا.. دون أن يفقه أحد منا كنه السؤال ومعناه..