هي طبيعة الأشياء وغرابة الحياة، تلك التي تواكب أقدار البشر وتصبغ حياتهم، وفق مشارب نفوسهم وأشواقهم، وتقودنا جميعاً إلى مصائرنا فيكون منا الشهيد ومنا الأسير ومنا الجريح، ويكون منا غير ذلك ما يكون مما نعرف مما لا عدّ له من نماذج ومسارات تكاد تجعلنا متعددين ومتشابهين ومختلفين كالبصمات، فبصمة الروح أكثر تعقيداً وغموضاً من كل خيال، لنكتشف في دهاليز الحياة ومسارب التاريخ مفارقاتٍ وغرائبَ تتسع اتساع السيرة الذاتية للبشرية، وتفتح على مشاعر للرضا وأخرى للندم في أطوارٍ لاحقة من عمر الإنسان القصير، ندعمه بقليل معرفتا من مصائر الغابرين ونتكئ على أرواحنا وقراءة العبر من المبتدأ والخبر لنسند إراداتنا واختياراتنا ولا نفرح بما آتانا ولا نأسى على ما فاتنا، وفي خبر السماء كل العزاء، «أليس الله بكافٍ عبدَه»، «أم حسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون»، فكم منّا كان يمكن أن يكون شهيداً لو لم تخطئه الرصاصة التي مرت من جانب أذنه ذات مخيم، أو لو انحرفت سنتيمتراً واحدا باتجاه الأبهر، وكم هي التقديرات والمقادير التي رأيناها وقد تعمدت أن تنقذنا من ذلك الاحتمال أو كانت تقود أحدَنا إليه، هي هكذا أقدارنا وهي مساراتنا ننال فيها من قيمة مضافة إلى أيامنا، وتضيف أو تحسم من رصيدنا، كلٌّ حسبما يظن ويرضى، دون أن يمنع ذلك من تصويبٍ لرؤانا بمقتضى حكمة الوقت واتساع الرؤية وزخم التجربة، كما قال محمود درويش على لسان راشد حسين بعد تعب المنافي الذي سار به إلى مراجعة حكمة الوطن والاغتراب: «قال لي بعد ثلاثين دقيقة في مطار القاهرة، ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة» وهي دياليكتيك المسار الإنساني أن المنتمين للحرية والطامحين لها ما كان لهم أن يسلكوا طريقهم لولا تحررهم الابتدائي وانجازهم الأولي لها في البدء من كينونتهم، إذ كيف له أن يسعى لافتكاكها في المحيط إن لم تكن حاديته وشوقه وبوصلته، وهي ككل خصلة في الإنسان تتكامل أولاً في العميق الممتنع من جوهرِه، وهي الحب الذي يشرق ويضيء أولاً فيه ويقوده أسيراً للتوحد مع الحبيب، ليتكامل النور وتقر دائرة الضوء ويتكئ القطب على القطب، فهي فطرة الإنسان أنّ مسار الإنسان هو شوقه لرسم العالم على شاكلة روحه، هكذا يقر ويستقر، كأنه يثبت ذاته في الأرض ويوقع باسمها على الحياة، وهو الفاني ذو الحياة القصيرة والطامح إلى الخلود يفرد روحه على جل الوجود، ليتسع بها بالقدر الذي تهفو إليه الروح من الامتداد والخلود، هكذا يتحقق، وهكذا تسعى كامل الحرية في الروح إلى كامل الروح في الحرية وكامل الحرية في الوجود، كأنه أسيرها، تقوده بها وإليها، حتى لو كبلته بأغلالها وأرهقته بقيودها، فهي هذه القيود ذاتها هي الدليل على كامل أسرها له واكتمال امتثاله لها وعلى اكتمال تحقق الروح بمنتهى حريتها.